قصيدة النثر التونسيّة من المسعدي إلى قصيدة البياض

أحاول في هذا المقال أن أمهّد لقراءة مختلفة في «قصيدة النثر» التونسيّة. وقد يستغرب البعض أن أبدأ بمحمود المسعدي صاحب مسرحيّة «السدّ» الشهيرة عندنا، وقد أشاد بها طه حسين، ورواية «حدّث أبو هريرة قال» و»من أيّام عمران» أو «مولد النسيان»؛ فأنا لا أتردّد في اعتبار بعضها عملا شعريا مؤسسا. ويكفي أن أتمثّل بهذه الشذرات: «الموت والحياة توأمان شاهدان على الكون، لا يفترقان؛ دونهما ينتفي الكيان عقلا وأصلا. وهل قام الكون في هندسة مبناه على غير قاعدة الازدواج والزواج؟/ أقسى ما في الموت أنّه باب خدعة، ليس وراءه إلاّ العدم/ ألا ترى أنّ الله في منتهى الغيب؟ والغيب أقصى أبعاد الحياة، والحياة عشق للغائب وفناء في الشوق إليه؟/ الحبّ والجمال ثأر الحياة من الفناء والعدم/ ما أحقر الزمان عند الممات/ هل أقسى في منزلة الإنسان من وحدته أمام الله والقضاء والقدر، والكون الصامت الشامت؟/ الإنسان صدى الله في الأرض، وعبقريّة الإنسان شيطان/ لا وجود لله إذا لم يطلبه طالب. وأيّ معنى يكون لوجود الله عند الله وحده؛ لا يجده أحد؟/ آفة الأدب اللفظ إذا انتفخ وطغى/ ما أثقل الحياة لولا بسمة الهزل/ أكتب؟ لمن أكتب؟ الأنا الذي سيموت، طمع في أن يبقى حيّا؟ في ما كتب؟ ومن يقرأ ما كتبت؟ وهْمٌ كلّ ذلك. لكنّه لا حياة يضطلع بها الحيّ، ولا أدب يعينها إن لم يكن كذلك أساسا ليقين لا يستقيم». وهذه وغيرها وهو كثير في أدب المسعدي، يذكّرنا بعضها بالوجوديّة، أو بالصوفيّة أو برمزيّة بول فاليري أو قصيدة الفكر عند روني شار، تؤكّد ما ذهب إليه هنري ميشونيك، إذ نترجم رواية لبلزاك أو فصلا لهيغل، فإنّنا نترجم قصيدة، لأنّ القصيدة هي كلّ ما يغيّر الفكر؛ فهي شكل حياة يغيّر اللغة وشكل لغويّ يغيّر شكلا من أشكال الحياة. والروايات العظيمة، هي روايات لأنها تحمل قصيدة في مطاويها، والآثار الفلسفية العظيمة يجري فيها ماء الشعر هي أيضا، ومثالها كتابات نيتشه.

أمّا النمط الثاني بمعنى النوع والطريقة والفنّ والمذهب، الذي اشتهر عندنا منذ أواخر الستينيات، فهو «في غير العمودي والحرّ» الذي تبنّته مجلّة «الفكر» لمؤسّسها محمّد مزالي الوزير الأوّل الأسبق، ورئيس تحريرها البشير بن سلامة زميلنا الآن في المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة». وقد كنت شخصيا شاهدا على هذا النمط، فأنا أنتمي إلى الجيل نفسه (الراحل الطاهر الهمّامي والحبيب الزنّاد وفضيلة الشابي)؛ وكنت أنشر بواكير قصائدي الموزونة الملتزمة في «الفكر» وبعضها بالاشتراك مع الشاعر الراحل عمّار منصور قبل أن يزجّ به في سجن برج الرومي، حيث قضى ستّ سنوات مع مناضلين كثر من حركة «برسبكتيف/ آفاق» وكنت وقتها مع آخرين (عمّار منصور وعمّار العربي الزمزمي المناضل اليساري المعروف والطيّب الرياحي) لا أرى الشعر إلاّ ملتزما قضايا الكادحين ومشاغلهم؛ إذ كنت منتميا إلى الحركة اليساريّة السريّة نفسها. وكان لي موقف مناهض لهذا النمط «في غير العمودي والحرّ» الذي اعتبرته مجرّد لعبة شكليّة هجينة، ونشرت ذلك في الصحافة؛ ثمّ وجدت الطاهر الهمّامي بعد سنوات، وقد عدّل موقفه بحكم انتمائه إلى «حزب العمّال الشيوعي» ينوّه به في أطروحته عن حركة الطليعة التونسيّة، ويعدّه موقفا استشرافيّا.

غير أنّي بعد سنوات طويلة، وأنا أعدّ مُتخيرا من الشعر التونسي الحديث، لوزارة الثقافة اليمنيّة بطلب من الراحل عبد العزيز المقالح؛ أعدت قراءة هذا النمط من «قصيدة النثر» ولم أتخيّر منه أيّ نصّ، لا هو ولا «قصيدة البيت» أو «العموديّة» على قلق التسمية؛ وسوّغت ذلك بكونهما محكومين بمراسم الشفوية، حيث تحلّ الذاكرة محل الكتابة، والسماع محل القراءة، رغم أنّهما نمطان متدافعان في الظاهر، لكن من المفارقة، أن كلاّ منهما، مرتهن بالآخر أو يكاد، يخفيه على قدر ما يجليه وكأنه نقيضه أو بديله. صحيح أنّ الشعر يتذرّع بالذاكرة، غير أنّ الذاكرة «إراديّة» و»غير إرادية». أمّا الأولى فتحفظ صورا ووقائع والثانية تحفظ آثارا وانطباعات. فإذا استأنس الشاعر بالأولى، كما هو الشأن في هذا النمط، فإنّ قصيدته «قصيدة معكوسة» تجري من الذاكرة إلى التصوّر؛ في عود أبدي لا ينقطع، إذ هي تنهض على أساس قراءة قصدية كما هو الشأن في «قصيدة البيت» ولذلك يكاد شعراء القصيدة الخليليّة (العموديّة) لا يفلحون في الانتقال من «شعر اللغة» القديمة أو شعريتها، إلى خارج هذه اللغة أو خارج قاعها البلاغي الراكد. وقد لا يخفى أمر الأسجاع التي تكبّل «في غير العمودي والحرّ» وتحول دون انطلاقه في فضاء الكتابة؛ وهي ليست إلاّ محاولة بائسة لستر فقر لغته وفقر إيقاعه.

أمّا النمط الثالث «قصيدة البياض» فيتمثّله كتاب «عطر واحد للموتى» لباسط بن حسن، وسائر مدوّنة عبد الفتّاح بن حمّودة، وبعض الشاعرات الاستثنائيّات مثل أمامة الزاير في قصائدها النثرية، وسونيا الفرجاني، وأفراح الجبالي خاصة.

ولا أستثني سوى نماذج قليلة تقدحها «ذاكرة لا إراديّة» كما «في المجزوم بلَمْ» للحبيب الزنّاد، على أنّها تصدر عن «تجاوز المختلفات» لا التأليف بينها، كأن تجاور بين فصيح وعامي، أو تملي على الثاني (العامي) ما ليس من خاصّية بنيته أو تركيبه؛ أو كأنْ تخلط بين سجع وقافية وفاصلة. وصحيح أن الكتابة تغريب لوضع طبيعي وأنّ التهجين الشكلي اللغوي مكوّن من مكوّنات وعينا، لكن شريطة أن يحكم الشاعر السيطرة على لغته، حتى لا ينساح النص ويتشتّت، ويتفاوت مراتب ومناطق. فالاستهانة بأوضاع اللغة وأعراضها، محمودة، كلّما كانت صادرة عن متضلّع متحقّق بموادّ شعره، يفضّ أغلاق اللغة، ويتلمّح الأشياء والأسماء في ذاتها وفي أدقّ خصائصها. أمّا التغريب أو التهجين الذي لا سند له من النص أو من سنن الجنس الذي ينضوي إليه، أو من عدّة القراءة ومواثيقها، فقد لا ينمّ إلاّ عن ضعف جمالي مردّه مهما يَحْتَلْ له صاحبه إلى جماليّة ضعيفة؛ حتى لكأنّ هذا النمط ليس إلا شعرا «شعبيّا» أو «ملحونا» مترجما إلى الفصيح أو ما يشبه الفصيح.
أمّا النمط الثالث «قصيدة البياض» فيتمثّله كتاب «عطر واحد للموتى» لباسط بن حسن، وسائر مدوّنة عبد الفتّاح بن حمّودة، وبعض الشاعرات الاستثنائيّات مثل أمامة الزاير في قصائدها النثرية، وسونيا الفرجاني، وأفراح الجبالي خاصة. والقصيدة عند أفراح، سواء في كتابيْها المنشورين «لا بدّ من قوس لنهرها في نيابوليس» أو»ما تأخذينه معك» أو في الكتاب الثالث المهيّأ للنشر، أشبه بظلّ خيالي لا يثبت على حال، لكن دون أن تكون قلقة، لأنّ مدار الشعر (وأقصد مطلق الشعر أو الشعريّة) عندها، على تراسل أسماء وأمكنة وحالات تتضافر كلّها في صياغة النص، من حيث هو إنشاء حالة أو أثر لشيء ما أو لفضاء ما، وأتخيّر في هذا السياق قصيدتها «أمازيغ»:
لا أعرف أشياء كثيرة في الحُب
أعرف الديكَ المذبوح
أعرف الأرواحَ على خشَبةِ المِلْح.. والمَجاذيف في الحُقول
ليْلا
عنْ المرأةِ التي تضعُ حَبَّة قمْحٍ
في فَم الحِكاية
كخيْطٍ طويل
وأعرف الحكْيَ على أرْبعٍ
أمْشي في الشَّمال… والعنْزةُ لا تقَعُ مِن يدي
وأمْشي في الشَّمال ورَحِمي اليَدُ
وأعرف خُروجي
في اتّجاه أُسْرةٍ ستظلّ حيّة
وبيْن أصابع الرِّيح: تَشُدّ الخوْخَ النّاضج من شَجرةٍ
مُنْتبِذة
وتَغْزِل العالَم
فلهذا النصّ وغيره، وهو «قصيدة بياض» من الخصائص المميّزة ما يعقد أكثر من علاقة مختلفة بين الواقع والكلمات، ومن ترتيب جديد للنصّ على صعيد رؤية الأسطر، أو الجمل الشعرية متناثرة بطريقة «عشوائية» أو مجّردة أو مجازية (الخطوط الخطيّة) حيث الأبيض مساحة للقارئ الذي عليه أن يملك «إبرة» ناقد حصيف، حتّى يعرف كيف يحسن «خياطة» العناصر المرئيّة وهي من التراث الأمازيغي الذي يقوم في كثير من رموزه على عالمي النبات والحيوان كما هو الشأن عند العرب أيضا: (الديك المذبوح/ خشبة الملح/ حبّة القمح في الحكاية/ العنزة…)؛ بما يجعله يتجاوز المعنى المباشر الناشئ عن البعد البصري إلى طبقات المعنى؛ وهذه القدرة على اجتذاب الخيال والشعور والفكر معا. وثمّة قاعدتان «ذهبيّتان» تحكمان هذه الملَكة الشعريّة في قصيدة البياض: فالكتابة هي الشطب، والإيقاع قبل كلّ شيء. ولذلك نجد الشاعرة لا تصف ولا تقصّ، بل هي كـ»من يثقب الصمت» أو هي تجعلنا نصغي بسمعنا وقلبنا إلى هذه الموسيقى الشعرية الصامتة؛ ونحن نخيط العلاقات بين الديك وحبّة القمح والمعزة، ونحاول أن نفكّ لغز العنوان «أمازيغ» حيث البياض في الكلمات، وليس بين الأسطر؛ فيجذب من ثمّة النظر والأذن والفكر، ويجعل من الاستعارة واقعا مدركا، من نظام الكائن «من أجل» أو «بدلا عن»؛ أو بعبارة هنري مالدناي، فـ»البياض [بصيغة الجمع] أصلا، وقبل كلّ شيء، هو ظهور موارد الكلمة في الكتابة».

كاتب وشاعر تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الزاوي بن أمين - طرابلس الغرب:

    تحية للسيد الكاتب منصف الوهايبي
    في الحقيقة لم أدرك بالتمام ما تقصده من اصطلاح «قصيدة البياض»
    حبذا لو تسعفني ببضعة سطور تبين فيها القصد بجلاء وتمييزها عن «قصيدة النثر» إن أمكن
    مع الشكر الجزيل سلفا

    1. يقول أبو تاج الحكمة الأول :وارث الخاتم المقدس للنبي العربي محمد صلى الله عليه وآله وسلم:

      بسم الله الرحمن الرحيم
      الصديق د منصف والناقد أ.الزاوي بن أمين
      تحية طيبة

      قصيدة البياض هو أن يقوم القارئ العادي الجاهل بأوزان العروض والقوافي التي تعادل النهايات العصبية بأن يخترع لنفسه دربا وسط هذا الضباب مستعينا بخاتم سليمان عليه السلام وإن كان علمانيا بمنجم مغربي او هندي للقراءة بين السطور
      [email protected]

    2. يقول الزاوي بن أمين - طرابلس الغرب:

      شكرا على الاستجابة أخ أبو تاج،
      ما تقوله هنا قد ينطبق على “كاتب قصيدة النثر”
      ولكن ماذا عن “كاتب قصيدة البياض”
      أتمنى أن أرى من السيد منصف الوهايبي جوابا أيضا !!

إشترك في قائمتنا البريدية