قصيدة النثر الغربية: المرجعية التاريخية والفكرية

حجم الخط
0

1 ـ الحداثة» و«ما بعد الحداثة»:

إن «الحداثة» باعتبارها مفهوما غربيا، تعاني من مشكل الضبط والتحديد، ويبدو هذا واضحا على المستوى اللغوي؛ في نقل كلمة modernisme إلى العربية التي «ينبغي أن تكون على مثال المصدر الصناعي من اسم الحداثة وهو «الحداثية» . أما على المستوى الدلالي؛ فتعني الدخول في مرحلة جديدة أكثر تقدما وتطورا، ويتجلى هذا في كون كلمة «الحداثة» «تقابل العراقة» . لكن الأمر الذي نراهن عليه في هذا السياق، هو هوية الحداثة الشعرية من خلال مرجعية تاريخية وفكرية.
لقد جاءت «الحداثة» رد فعل على ما كانت تعيشه أوروبا جراء هيمنة الكنيسة التي أغرقت الإنسان الأوروبي في وضع مأزوم، ومترد، مليء بالتناقضات والظلم والخرافة، ولتجاوز هذا الوضع، نشأت تيارات معادية للكنيسة بالدرجة الأولى، وأهمها «التيار العقلاني» الذي يعد أنضج تيارات هذه الحركة، ليؤسس لحداثة، انطلاقا من الانفصال عن الدين في جميع مجالات الحياة، والانتصار للعقل والعلم. لكن «جغرافيتها المترامية الأطراف وعدم التجانس، أسهم في إظهار الحضارة على ما هي عليه؛ من تعقد واضطراب وتناقض واختلاف، جعل بعضهم يتحدث عن حداثات لا حداثة واحدة».
وتعد مفهوما متطورا باستمرار، منذ عصر النهضة الأوروبية، حيث زحزح المنظومة المجتمعية، بفعل الدخول إلى الصناعة والحرية الدينية، وصعود النظام الديمقراطي، وسيطرة العقلانية والانتصار للعلم، «لأن أصحابها يعتقدون بالتجريب المستمر والثورة الدائمة»، بعد أن وضعوا خطوطها العريضة، فخلفاؤهم آمنوا بالتجاوز. ما أسفر عن مرحلة أخرى أكثر تقدما، وهي مرحلة «ما بعد الحداثة» أو «الحداثة الجديدة».
ولا يمكن أن نتصور أن «ما بعد الحداثة» هي نفي «للحداثة»، فالعلاقة بينهما علاقة تاريخية/تعاقبية، تتميز بالاستمرارية، وإن كانت الثانية انتقادا للأولى. ويعد أول من استعمل مصطلح «ما بعد الحداثة» هو الشاعر تشارلس أولسون في رسالة كتبها عام 1951 إلى أحد أصدقائه، مشككا في قيمة التراث، مقارنة مع اللحظة الراهنة. يقول فيها «ألم يكن من الأفضل لنا نحن» ما بعد الحداثتين «أن نترك أشياء كهذه وراءنا». وبعدها عرف هذا المصطلح انتشارا واسعا، وقبولا في الأوساط الثقافية والفكرية، بل نجده يدل على ما بعد الحرب العالمية الثانية، ليؤرخ للنقلة النوعية التي عرفها المجتمع الأوروبي؛ من مجتمع الصناعات الثقيلة إلى مجتمع إلكتروني.
وإذا كانت «الحداثة» تعاني من مشكلة الضبط والغموض، فإن فكرة «ما بعد الحداثة» التي ازدهرت في الولايات المتحدة الأمريكية منذ ثمانينيات القرن العشرين، حولت صورة العالم، فلم يعد يؤمن بالتقدم والعلم كقوة عظيمة، بل «لم يعد الأمر يتعلق بتثمين ثقافة (علمية – غربية) إزاء أخرى، لكنه يتعلق بمديح مزايا الاختلاط، وبالتعدد الثقافي والاختلاف». فإذا أنبنت الحداثة على أساس عقلاني وعلمي وتقني، فإن عصر «ما بعد الحداثة» لا يؤمن إلا بالتنوع وتداخل الثقافات والاختلاف والتشظي، في محاولة رد الاعتبار لما هو معنوي وروحي بدل العقلانية الجافة، والأحادية في النظرة للعالم، وقضاياه الإنسانية والوجودية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو مدى تأثير هذا على الجانب الثقافي والفني، خاصة على مستوى القصيدة والكتابة الشعرية؟

لم تكن الحداثة الغربية نتيجة الصدفة، بل وليدة مجموعة من الظروف، والمتغيرات العميقة في حياة المجتمعات الغربية في شتى مجالاتها؛ الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية، التي جاءت بالموازاة مع الثورة الصناعية والتطور العلمي.

2 ـ الحداثة الشعرية الغربية:

لم تكن الحداثة الغربية نتيجة الصدفة، بل وليدة مجموعة من الظروف، والمتغيرات العميقة في حياة المجتمعات الغربية في شتى مجالاتها؛ الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية، التي جاءت بالموازاة مع الثورة الصناعية والتطور العلمي، ما أسفر عن حياة جديدة، قطعت صلتها بالنمط القديم، واتسمت بإيقاع السرعة والتقنية، علاوة على الثروة السكانية التي نما وعيها، وتنامت تطلعاتها بخصوص القضايا المجتمعية والحضارية المعيشة آنذاك .
وبذلك، لا يمكن الحديث عن حداثة واحدة، بل هي حداثات متنوعة ومتعددة، وإن انمازت بالتداخل التاريخي والفكري، وكما يشير أدونيس إلى أن «الحداثة ثلاثة أنواع: «الحداثة العلمية وحداثة التغيرات الثورية ـ الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ السياسية، والحداثة الفنية». لكن الخصيصة الأساس التي تجمع بين كل هذه الأنواع والمستويات، هي «أن الحداثة رؤية جديدة؛ وهي جوهريا رؤية تساؤل واحتجاج، تساؤل حول الممكن، واحتجاج على السائد». ولم يتم التوصل إلى هذا المستوى، المتسم بالعمق في التساؤل والاحتجاج، إلا عبر مراحل، أشار إليها فرانز كونا فالحداثة في عام 1800؛ كانت مفردة فضفاضة غير محددة المعاني، وأخذ معناها يتحدد نوعا ما في عام 1900. أما في عام 1910؛ فقد تحدد المعنى تماما وأصبحت تعني حركة إبداعية في القرن العشرين».
فالحديث عن الحداثة هنا، ليس سوى من وجهة نظر إبداعية، بغية خلق عالم آخر، متجاوز للعالم الواقعي، المتسم بالتناقضات، الذي استعبد الإنسان بفعل سيادة سياسته الاستهلاكية، وحضارته التي ضربت القيم عرض الحائط، ومجدت الآلة والتقنية، والبذخ المادي، ما أسفر عن رؤية شعرية جديدة، أصبحت فيها اللغة الشعرية تطرح نفسها كعالم بديل، هو عالم الشعر، وعالم القصيدة التي تمردت على كل الأشكال النظمية الدالة على تلاحم الذات بالعالم، إنها صيغة من صيغ التمرد والرفض.
وعلى الرغم من اعتمادها آليات أخرى، فإن مركز الثقل المعتمد فيها، هو اللغة الشعرية الخلاقة التي تسعى إلى تجاوز التمزق والثنائية والانقسام، لتحقيق «اندماج المثالي بالواقعي، المجرد بالمجسد، وقد كانا منفصلين من قبل». لكنها لم تنجح في هذا، ما أسفر عن مزيد من الهدر والهدم والنفي، فأصبحت هذه الخصيصات مرجعيات أساس للشعر الغربي الحداثي. وفي نطاق هذا الصراع الجدلي، ظهرت مذاهب ومدارس ونظريات عدة؛ مثل الرومانسية ، والواقعية، والبرناسية والرمزية، والسريالية، والدادائية وغيرها.
وبقدر ما حاولت هذه اللغة الخلاقة أن تتسم بروح الثورة على الشعر الكلاسيكي، والتمرد على الواقع الغربي المعيش، والتعبير عن قلق الإنسان في ظل التناقضات والاغتراب، بقدر ما اتسم شعر هذه المرحلة بنوع من الغموض والشذوذ في تقريرات الشاعر الفرنسي بول فاليري، فـ»الشعر لا يهدف على الإطلاق لتوصيل فكرة محددة إلى إنسان ما، بل إن المهم فيه هو الكلمات، وإيقاعها والصور التي توحي بها، والتداعيات التي تثيرها والتجربة أو الحالة التي تخلقها».
وهذا لا يعني أن شعر الحداثة الغربية، رغم اتسامه بالحرية والتمرد إلى أقصى الحدود، منفصل عن واقع الشاعر، وعن ماضيه وحاضره ومستقبله، بل ظل الشاعر ضمن هذا السياق الحداثي، مرتبطا بطبيعة الحياة التي يعيشها، وبعصره وقضاياه. وهذا ما ذهب إليه أحد أعلام الحداثة الشعرية، وهو الشاعر ت. س. إليوت الذي يعتبر أن الحداثة «لا تكمن في الصور التي نشكل فيها فننا الشعري، بل في قدرة الشاعر على الإحساس بعصره، واستخدام المعادل الموضوعي السليم في التعبير عن هذا الإحساس».
وبخصوص «الحداثة الشعرية» تختلف باختلاف أعلامها، فالحداثة عند بودلير، هي الكشف، وهو مفهوم أساسي عند الرمزيين الفرنسيين، ومادام قد اعتمد على جمالية القبح، فالقصيدة عنده، قصيدة كشفية و»هي التي تكشف لنا عالما جديدا، عالما بكرا». غير العالم الرأسمالي المتناقض الذي يعيش فيه. أما عند آثر رامبو، ومادام قد اصطدم بالواقع ليكشف أنه عاجز أمامه، وأمام تغييره، فهو «مفهوم يتأسس على مجموعة من الرؤى الهادفة لاستكناه المجهول، والكشف عن الأسرار الخفية، بل الرحيل والسفر إلى ما بعد الواقع». الشيء الذي جعل منها مفهوما غامضا؛ قاعدته الخيال والرؤية المؤسسة على الحلم، إنه حلم بواقع أخرى، عبر السفر في المجهول.
وبخصوص مالارميه؛ فهي تقوم على خرق الأشكال والقوالب الجاهزة، ومحاولة تشكيل عالم أخرى، انطلاقا من الخبرة والثقافة التي يبنيها الشاعر عن الواقع المرئي، الذي ينبغي تجاوزه اعتمادا على الانفعالات والأحاسيس، بهدف الابتكار والتوليد «في فضاء يسوده الغموض أو اللغز، الذي يمنح للقصيدة الشعرية الدخول إلى عالم المجهول، فيجعلها قصيدة تنبئ بما سيكون عليه الواقع». عن طريق الرؤية الاستشرافية نحوالمستقبل المجهول. وتعد هذه المفاهيم سواء المرتبطة بالحداثة أو الحداثة الشعرية، قد أثرت بشكل ملموس في ظهور»قصيدة النثر الغربية». فكيف كانت البدايات؟.

البداية الحقيقية التي يكاد يجمع عليها مجمل النقاد، بخصوص «قصيدة النثر الغربية» ترجع إلى  الشاعر ألويزيوس برتران الذي تأثر به معظم شعراء قصائد النثر الذين أتوا بعده، وفي مقدمتهم شارل بودلير.

3 ـ إرهاصات قصيدة النثر الغربية

مما لا شك فيه، أن «قصيدة النثر الغربية» ارتبط ظهورها بالتحولات المجتمعية، التي أسفرت عن ظهور الحداثة بصفة عامة، و»الحداثة الشعرية» أو الفنية المرتبطة بالحركة الإبداعية آنذاك، بصفة خاصة. وبذلك ارتبطت بمظاهر انحطاط الحضارة في شتى مجالاتها، ما أثر على الإنسان الغربي، من حيث إحساسه بالتناقضات والاغتراب المجتمعي والإنساني والوجودي، وهكذا «خاطرت بأن تبدو ثمرة غربية ذات مذاق شاذ لحضارة آفلة» . لقد ظهرت في حقبة عرفت زعزعة لكل الأبنية الثقافية والاجتماعية والإبداعية؛ ما أسفر عن سخط الإنسان وتمرده، وعدم استسلامه لنظام رأسمالي يضرب بالقيم الإنسانية عرض الحائط. وهذا ما دفع به ليطالب باستقلاليتة إنسانيا ووجوديا، وإن اعتمد على التمرد والإرادة الفوضوية، فـ»لم يكن من الممكن للشعر أن يظل خارج هذا الاضطراب وهذا الجهد التحرري».
وإذا كانت «قصيدة النثر الغربية» رهينة عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية، فقد ارتبطت بعوامل ثقافية؛ أهمها عامل «الترجمة»، وعامل «التجريب» في الكتابة والتعبير. فعامل الترجمة بين لا مراء فيه، حيث إن الوزن (والقافية)، ليس من المقومات الأساس في القصيدة، وهي حقيقة جديدة، لكن لا يعني هذا أن الشكل أمر ثانوي، بل يدخل في البناء الفني للقصيدة وبشكل عضوي، فـ»اختيار الموضوع ـ والغنائية والصور وبناء القصيدة ـ وما سيُسَمِّيه «بُّو» بـ»وحدة الانطباع» ـ هي، كلها عناصر قادرة على إثارة الصدمة الشعرية الغامضة، ما أسفر عن ظهور ما سمي بـ»الترجمات الشعرية المستعارة» وذلك بين 1780 و1980.
لهذا نجد أنها قد تأثرت، خاصة، من الناحية الإيقاعية بـ»أغنيات هندية أتالا وهي أغنيات أسهمت بشكل خاص في ظهور «قصيدة النثر» كما صاغها في البداية آلويز يوس برتران، علاوة على التأثر بالتوراة. لكن عموما، نجد أن اعتماد التكرار واللوازم الغنائية في الكتابة حتى عند شاتوبريان تدين بالكثير للأناشيد والأغاني العاطفية الشعبية، المقروءة في عصر الترجمات في العديد من الجرائد.
أما عامل «التجريب»، فتمثل في كتابات الناثرين الذين مهدوا الطريق لظهور «قصيدة النثر» مثل ايفاريست بارني في»أناشيد مدغشقرية «، التي هي عبارة عن بناءات شعرية جديدة لم تعرف من قبل، وفيليستيه دي لاميني في مؤلفه «كلمات مؤمن»، وألفونس راب في كتابه الشهير «ألبوم متشائم» الذي يضم قصائد نثر لم تعرف إلا في ما بعد .
غير أن البداية الحقيقية التي يكاد يجمع عليها مجمل النقاد، بخصوص «قصيدة النثر الغربية» خاصة في الثقافة الفرنسية، فهي ترجع إلى شاعر سيكتب كتابا يحوي نصوصا، محاكاتية تسخر من كل الرومانتيكية، وفي تقطيع جديد للنثر، هذا الكتاب موسوم بـ«غاسبار الليل»، وهو للشاعر ألويزيوس برتران الذي تأثر به معظم شعراء قصائد النثر الذين أتوا بعده، وفي مقدمتهم شارل بودلير، ولم يكن هو بداية الكتابة النثرية عند برتران، بل كتب مقطوعاته الأولى حوالي عام 1828، ثم تم تأليف الجزء الأكبر منه عام 1830، وقبله نجد كذلك ألفونس رابيه .
ويظهر أن عامل «التجريب» هذا، لم يرتبط فقط بظهور «قصيدة النثر»، حيث الانطلاق من البحر السكندراني مرورا بالشعر الحر والشعر الموقع، بل سيستمر حتى بعد ظهورها، سواء على مستوى الإيقاع؛ عند جل أعلامها مثل بودلير ورامبو وبريتون وغيرهم، أو على مستوى زاوية الرؤية التي تبناها الشاعر؛ وذلك من خلال الصراع الذي كان بين التيارات الشعرية؛ الرومانسية منها والواقعية والبرناسية والرمزية وغيرها. مما أسفر عن اتجاهات وأنماط في الكتابة.

٭ كاتب من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية