قصيدتان

حجم الخط
0

الأصوات التي تُصدِرُها الكائِناتُ لَيْلاً
اللَّيلُ البارِدُ يُلقي نُجومَهُ في الماء
يَنزِلُ إلى البَحر لِيَستَحِمَّ
لا شَيءَ يُسمَعُ في هذا اللّيل سِوى نايٍ يَذْرِفُ أنينَهُ على مَسمَع الأشجار
يسقُط كلّ الصَّدى في الوادي

اللَّيلُ عُصفُورٌ مربُوطٌـٌ بِخَيطِ حَريريٍّ إلى قلبي
صَوتُهُ خافِتٌ يَنزِف حَسرَةً
على العُش الذي داستهُ امرَأةٌ و غابَتْ في الرِّيح

عَجُوز ٌ تجلس على جِلدِ خَرُوفٍ
تُدندِنُ لَحنًا بَدَوِيًّا لا أعرِفُهُ
تُشيرُ بأناملها الهزيلة إلى نجمةٍ في آخر المَلَكوت
تهوي النجمة فِي الأغنية مثل شِهاب
تِلكَ العجوزُ لا أعرِفُها
و لكنّني أرى صوتَها يتجوّل في الحُقول
إنّها تَفتَحُ نافِذَةً على الذاكرة لِتُشاهِد المَرعَى فتبكي مَعهُ
تلك العجوز تُحبّ المطر و الأشجار و التّذَكُّـُـر
و لِذلِك تَدُسّ فِكرةً بيضاء في الماضي كي يتّضِحَ المَشهَدُ أكثر
وَشمُها يُصدِرُ هَمهَمَة ً و دَمًا كالخَريفِ يَقطـُرُ ريحًا و نُواحًا
الهَمهَمَة ُ تُحدِثُ شَرخًا في الجبين
الوَشم الذي خَرَجَ لِلتَّوِّ من جَبين عَجُوزٍ
صَارَ صَبيّة ً تُرسِلُ مع الموج ضفائرها الخضراء فيَغرَقُ البَحر
تَتَمَدَّدَ على الشاطئ فَيَصيرُ الرّملُ أخضَرَ
بَينَما يُواصِلُ العَجُوزُ يَغِرِسُ الحُروف بأنامِلِهِ في الهَواء
ينفُخُ فيها فتَصيرُ أغنيةً
المَوجُ يَلتَحِفُ الزَّبَدَ و يَخرُجُ إلى الشاطِئِ لِيَتَشَمَّس
الطّقسُ يُشجِّعُ على السِّباحَة
الليلُ يخرُجُ مِن الماء
وَ تَدخُلُ الفِكرَةُ عارِيَةً تَمامًا كالبِدايَةِ

طَقْ … طَقْ … طَقْ
مَن يَخطُو على الماء في هذه الساعة المُتأخِّرَةِ مِن الحُلم؟
مَن يَقرَعُ الأجراسَ عند نَافِذَتِي كَي يُوقِضَ الكَلِمات؟
لَا مُجيبَ سِوَى السَّواد
اللَّيلُ يَهمِسُ لِي أَنِ آتَّقِدْ

طَقْ … طَقْ … طَقْ
ثَلاث ُ قَطَراتِ نَدَى تَهَاوَت مِن تُوَيْجِ سَوسَنة
قَطرَةٌ عَلى شَفَةٍ يابِسَةٍ … هَدَمَتْ حِيطانَ الرُّوحِ لَيلاً كَي يَنبَجِسَ الماء من السَّواد
قَطرَةٌ عَلَى ‘بْيانُو’ مَهجُور تُحدِث ُ مُوسِيقَى : ‘تِنْ’ … تَطِيرُ العَنادِلُ مِن فَتحَة الصّوت
يُسَيِّجُ صُداحُها هَذَا الفَراغ
قَطرَةٌ تَهاوَتْ عَلى مِرآةٍ فأزهَرَ قَلبُ الرَّائِي

أمشِي على أطرافِ أصابِعِي كَي لا أُوقِضَ الأنبِياء في الحُلم
تَرَكُوا الحُقول و الأنهارَ و الأسماءَ تَسبَحُ في ضوء النَّهار
تَوَسَّدُوا خَمِيلَةً فِي أقصَى الصَّدى
نَامُوا في جَفنِهِ
حَالِمِينَ بطائِرَةٍ مُكَيَّفَةٍ تُقِلُّهُمْ إلى الأبدِيَّةِ

الأصواتُ التِي تُصدِرُهَا الكَائِنات لَيلاً هِيَ فراغاتٌ يَملَؤُها البُكاء و الحُرُوف النّاعِسَة
الصّوتُ الذي سَقَطَ للتو من فَمِ شاعِر جالِسٍ عِندَ النَّهر يُفَكِّرُ في الاِنتِحار
قَطَرات الماء التي تقطـُرُ من سَقف العَالَم
كُلُّهَا أصواتٌ تَتَسَلَّقُ الهواء مُربِكَةً هَذَا السُّكُون
أيَادِيهَا غُبَارٌ و فَراشاتٌ سَمراء
لا كَائِنَ يَلِجُ فَوضَاكَ رافِعًا مَوتَهُ عَلى ظَهرِهِ
لا شيءَ حولَكَ الآن سِوى أسوار هَدَمَها السّواد و لَيلٌ يَضحَكُ مِلءَ الغِيَاب

2

العربات التي حملت طفولتي بعيدا

العربات التي تلـُوح في جادة ريفنا ليست عربات
إنها ظلال متسلّلة من ثوب الليل الداكن
حتى السناجب المتقافزة في الطريق تلقي عليها أزهار التحيات فتُزهِرُ ابتسامتي حين أتذكر أن طفولتي
تقافزتْ في الطريق نفسه كسنجاب و غابت في حُفرة واراها الزمن بأوحاله
و أتربته التي زرع النسيان فيها براعمه الفتيّة و نام هناك
لم نعد نذكر شيئا
العربات المهجورة عند النهر ترثي سائسيها
العجلات الخشبية المنخورة بصفير الريح
مازالت رغم أنف الوقت واقفةً
لم نعد نتذكّر شيئا
العربات التي حملتنا إلى بساتين اللوز وحدها تبتسم لنا
تُربّت على وجعٍ صَدِئ مازال يَخِز القلب كلما عُدتُ
الذاكرة سَقفٌ مُثقَلٌ بالماء الرّاكد
أيامُنا تتقاطر من السّقف
أصواتنا مبتلّة بعَرَقِ المَوتى في قِبَاءٍ كُنّا بَنَيناها بحَطب يابس و خوف اسمنتيّ أزرق
نظراتُنا عناقيد خضراء
تتدلّى من شجر المسافة
احرسيها يا طيورُ من حزن الفصول
تلك العناقيد آية للطريق
لِحاء نزعناه للتو من جذع الذاكرة كي نُثبّت خطانا به في الدرب المعتِم
وحدها العربات مازالت واقفة رغم أنف المسافة ضاحكة لطفولتنا متجمّلة برائحة الطين
أيتها العربات المهجورة كُفي عن مواويلك التي تثقب قلبي كلّما نَظرتُ
خذيني إلى السماء محمّلا بأحلامي
سأزرعها هناك نجوما و غيمات
سيمطر وجهي و يسقي غابات الصدى

ألوّح على عربات طفولتي بمناديل بيضاء
حمام يرفرف و يطير من صوتي السماويّ
سأعيد الماء إلى جسدي رغم عباءة الصيف التي تلف جسدي حرارتُها

أعِرني نظاراتك كي أرى
كي تصير حدائق النّص تيجانا من الشوك تتساقط في الماء
تفرّ الكلمات من كفّي و تَلِجُ خزائن المعنى
أهديكَ عربات الكلام و الخطى
و هي ترتفع إلى الأبديّة محمّلة برائحة صوتك
كن غيمةً خفيفة
اسقِ بمائكَ الصّبار
و ظلال الخيول الآتية من ثوب الليل
كن خفيفا كي تحملك العربات شرقا و تُهديك فكرةً لِ’طاغور’ المتكئ على صفصافة في ‘بونو’
ناظرا إلى المنارات التي يخيط عباءة الليل ضوئها المتكسّر
حمِّل العربات الواقفة عند شفة الريح كل التحيّات
لعلّك تُجفّف الفكرة من ماء النسيان
لعلّك تتذكّر شيئا ما
شاعر من تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية