لم يعد الحديث عن أزمة الإنتاج السينمائي مقصوراً فقط على الدول العربية الفقيرة، لكن المشكلة امتدت آثارها للدول القادرة اقتصادياً بما فيها الدول النفطية التي بدأت فيها صناعة السينما منذ تاريخ قريب، ومع ذلك باتت تئن من أزمات الإنتاج المتوالية نتيجة الركود في سوق التوزيع وإغلاق المنافذ أمام الفيلم العربي لدواع سياسية وأمنية وخلافات دبلوماسية وغير ذلك.
ما كان يخص دولة أو دولتين في المنطقة العربية صار مُنسحباً على كافة الدول، ومن ثم تعقدت المشكلة ولم يعد من سبيل لإنقاذ الصناعة السينمائية غير إيجاد حلول جوهرية تعيد التوازن مره أخرى لعملية الإنتاج وتفتح منافذ التوزيع مجدداً أمام المُنتج الفني لترويج الحركة التجارية وتنشيطها لتعود إلى سابق عهدها.
الشواهد كلها تؤكد أن هناك عوامل مستجدة أدت إلى تفاقم الأزمة من بينها اهتمام بعض الفضائيات العربية بإنتاج الأعمال الدرامية التلفزيونية وقيامها بضخ كمية من الأموال في هذا الاتجاه، ما ترتب عليه انسحاب الكتلة الجماهيرية من محبي السينما إلى الشاشة الصغيرة، وبناءً علية تراجع معدل الإقبال على دور العرض السينمائية وانخفضت الإيرادات بشكل ملحوظ، فضلاً عن التأثر السلبي الواضح للجهات الإنتاجية الرسمية في معظم الدول العربية بدخول المحطات الفضائية الخاصة سوق الإنتاج التلفزيوني وتركيزها على المسلسلات متعددة الأجزاء والإنفاق عليها بسخاء لحساب جهات معينة تشجع على استمرار الظاهرة الدرامية وتدعم الفكرة السلبية الرامية إلى سحب البساط من تحت أقدام السينما، لتظل الرؤى الفنية خاضعة لوجهات نظر بعينها تسعى لإعادة تشكيل الخريطة الثقافية العربية بمقاييس جديدة.
ولأن السينما تتمتع بقدر كبير من الاستقلال في اختيار موضوعاتها وقضاياها ولها من الحرية ما يؤهلها لمناقشة الأزمات والمشكلات في ضوء الوعي المتراكم لديها عبر سنوات طويلة، فقد أدى ذلك إلى استهدافها والعمل على إضعافها كونها مُستعصية على التطويع والانقياد للموجات الطارئة من التلون والتغير على مستوى الشكل والمضمون، ويأبى صُناعها أن يتحولوا إلى دُمى في أيدي الدخلاء من المستثمرين في صناعة الأدب والثقافة والفن.
وتعود مسألة التركيز على السينما ومحاولة توجيهها إلى خصوصيتها وطبيعة جمهورها الذي يتميز أغلبه بالذكاء والإلمام بكافة المحاور الفكرية، إضافة إلى تمتعه بقدر وفير من الثقافة السياسية، الأمر الذي يجعله نقطة محورية في حسابات التشكيل الجديد وإعادة رسم الخريطة وفق مقاييس عالمية يهتم أصحابها بتفريغ العقلية العربية من المحتوى الثقافي والإبداعي الراقي ليعاد ملأها بالسطحي والتافه والمستورد من الأفكار الهدامة.
ولا يمكن فصل هذه المحاولات عن مخططات الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا، الساعية إلى تحقيق حُلم التطبيع الثقافي والفني مع بعض الدول العربية لصالح إسرائيل، ليتسنى لها إذابة الرواسب التاريخية وفرض منهجية جديدة مفادها إعادة النظر في مسألة الصراع العربي الإسرائيلي وإقناع الشعوب بالتخلي عن ثوابتها الوطنية، وهو المخطط الذي دخل حيز التنفيذ بالفعل بترحيب من بعض الدول البترولية الصغيرة التي تجتهد في أن يكون لها تاريخاً ثقافياً وإبداعياً تباهي به الأمم!
وعلى هذه الخلفية بدأت منذ فترة حزمة من النشاطات المثيرة للتساؤل، يأتي على رأسها مبادرات التمويل الأجنبي للأفلام ذات الطبيعة الخاصة ومنح الجوائز لكل ما هو مُلتبس ومغاير من الإبداعات الفنية الغريبة، وتشجيع المهرجانات النوعية التي تغازل الغرب وتطرح الأفكار الثقافية غير التقليدية في إطارات مختلفة تشير في ظاهرها إلى تيارات الفن الحداثي وعلاقتها بنهضة الشعوب في ربط تعسفي مُربك بين مفهوم الحداثة وتمييع الهوية كهدف استراتيجي لجهات التمويل التي تنفذ مشروعاتها عبر مؤسسات غامضة.
وقد بدأت مبادرات التمويل الأجنبي قبل سنوات قليلة في القاهرة بأشكال متعددة بإيهام التثقيف والتواصل مع الآخر، وتحت هذه الدعاوى جاءت فكرة المهرجانات والاحتفاليات وكرنفالات السينما العربية التي طافت معظم العالم العربي لتبشر بالثقافة النوعية الجديدة وتُفعل الدور السينمائي داخل السياقات المدروسة، تبعاً لسياسة الراعي الرسمي للأنشطة وتمويلاتها وأطرها.
وبرغم توقف هذه النوعية من المهرجانات، إلا أن التمويل لا يزال مستمراً بشكل غير مُعلن وفي حدود ضيقة لأسباب، قد تعود إلى ضخامة ما تم إنفاقه على مدار السنوات الماضية بغير حدوث نتائج مُرضية أدت إلى تغيير الخُطة، أو أن ما حدث كان مجرد مرحلة تمهيدية جرى خلالها حرث التربة الثقافية قبل زراعتها بما يلائم المشروع الثقافي – التطبيعي – التوسعي – الأجنبي – الكبير!