صرخ الإبريق الجالس على ألسنة النار المتوهّجة والهاربة من الموقّد الجالس بدوره على الطاولة الخشب، في إشارة منه إلى بلوغ الشاي كماله، صرخت النار بدورها في إشارة منها إلى عبء الإبريق المُلتهب على ألسنتها، صرخت أنا أيضاً بدوري ويدي الصغيرة لطفلٍ لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، يدي المُثقّلة بأقداح الشاي الفارغة، والمستعجلة لتمتلئ بالشاي لركابٍ مستعجلين على متن قطارٍ مستعجل، غادر مدينة قامشلوكي على عجل، متّجهاً إلى دمشق العاصمة، حيث الاحتفال الكبير لأنصار الشيوعيين، القطار المزخرف بالرايات الحمراء المنقوشة على طرفيها صورة المطرقة والمنجل المتعانقين أبداً في مسيرتهما، المطرقة التي لا تكفّ عن طرق جمجمة العامل بدلاً من طرق الحديد، ليبقى في غيبوبة دائمة، والمنجل الذي لم يفصل سنبلة القمح عن جسدها ليبقى بطن العامل خاوياً وجائعاً إلى أبد الآبدين.
فتحت باب العربة على مصراعيه بيديّ الصغيرتين، وما أن فُتح الباب حتى دفعتني هتافات التمجيد للقائد خالد بكداش، مظلّلاً بصوره نوافذ عربات القطار، إلى جانب صورة مطرقته ومنجله، بكداش الذي ورث حصته الشرعية من تركة لينين في الجغرافية العربية، الوريث الشرعي الذي لم يتردد أبداً في الصعود على أكتاف العمال، للوصول إلى مقاصد بعيدة عن مقاصد العمال، الوريث الأكثر تأييداً لسلطة حزب البعث بصفة معارض، أو الحزب المعارض المؤيد في معادلة عجيبة وعصيّة على الفهم. حناجر تصرخ بأعلى صوتها، صيحاتٌ متزامنة مع صوت الطبل المرافق تعلو صوت صافرة القطار، ولم أتردد لحظة في إطلاق العنان لحنجرتي وسط كل صيحات التمجيد والتبجيل، لأُقحم صوتي الخجول بين كل هذه الأصوات الصاخبة وأنادي (شاي ساخن، شاي ساخن، شاي ساخن…) حاملاً الإبريق الممتلئ بيدي اليمنى والكاسات الفارغة بيدي اليسرى، وهكذا أتجول في العربات الواحدة تلو الأخرى لبيع الشاي في صفقة مبرمة بيني وبين الركاب في القطار المزدحم الخاص بالشيوعيين، أجسادٌ شهيّة متحرّرة من ثوبها، تتمايل يمنة ويسرة على صوت الطبل المرافق للأغاني الثورية فوق الوطنية، أفخاذٌ ممتلئة لا تسترها إلّا تنانير قصيرة تعلو الركبة بميل وكأنّ أحفاد البلاشفة لم يثوروا إلّا على الأقمشة التي تُلحّف الأجساد لتتمرّد هذه الأجساد على الأقمشة وتمزقها، فتتحرّر الأجساد من عبء القماش، إنها ثورة الجسد على الثوب.
أطلق القطار صفيراً متواصلاً، مُشيراً للوصول إلى مداخل دمشق لينبّه الركاب المُنهكين من الصيحات على حزم مطارقهم ومناجلهم لترتيب الفوضى، وإعادة الهدوء إلى صوابه وليُنبّهني بدوره لإعادة الإبريق، وما تبقى من الكاسات الفارغة إلى فسحة استراحة قبل البدء بجولة ثانية من جولات العمل مقابل الحياة، وعند الوصول تزامنت الصافرة الأخيرة مع عمل المكابح الجادّة في أمرها لإيقاف القطار المستعجل، نزل الركاب أفواجاً متّجهين إلى ساحة الاحتفال، وأنا بدوري توجّهت إلى ساحة المرجة حيث ينتظرني صحن الفول الغارق في الزيت.
٭ كاتب سوري
قامشلي وليس قامشلوا وما اصول اسم ديار بكر
مقالة رائعة كروعتك دائماً آزاد الرائع
كم كنا ثازجين في ذالك الوقت كنت انا أيضًا وحدة من تلك الركاب مع الأسف
مقال جميل عموماً ما عدا الكلمات التي تبدو لي مقحمة في النص بدون أي داع كـ :(..أجسادٌ شهيّة متحرّرة من ثوبها، تتمايل يمنة ويسرة على صوت الطبل المرافق للأغاني الثورية فوق الوطنية، أفخاذٌ ممتلئة لا تسترها إلّا تنانير قصيرة تعلو الركبة بميل وكأنّ أحفاد البلاشفة لم يثوروا إلّا على الأقمشة التي تُلحّف الأجساد لتتمرّد هذه الأجساد على الأقمشة وتمزقها، فتتحرّر الأجساد من عبء القماش، إنها ثورة الجسد على الثوب.)
تحياتي عزيزي آزاد عنز.