«قمة مناخ» مصر: أو هل يخلّصنا علاء عبد الفتاح من المحاكاة الساخرة؟

يبدو كثير من الأحداث السياسية والثقافية في أيامنا أشبه بمحاكاة ساخرة لذاتها، وكأننا لا نطّلع على «النسخة الأصلية» منها، بل على صيغة هزلية، صُمّمت لكشف تناقضاتها وتضخيم عيوبها. الغريب أن هذه الصيغة لا ينتجها الناقدون أو المحتجون، بل أصحاب الحدث أنفسهم. وهذا الأمر لا ينطبق فقط على قمة المناخ العالمية الأخيرة «كوب 27» المعقودة في شرم الشيخ المصرية، بل على معظم ما سبقها من قمم، التي بدا فيها الحديث عن «العدالة المناخية» مثيراً للسخرية، وسط جمهرة من السياسيين والأثرياء والناشطين، الذين يمكن اعتبار أن مجرد وجودهم، واجتماعهم معا، يخلّف «بصمة كربونية» ثقيلة على الكوكب.
إلا أن عقد القمة في مصر أدى لبروز ما يمكن اعتباره «حقيقة» ما، للمرة الأولى في تاريخ هذا النوع من القمم، وهو المعركة التي يخوضها المناضل المصري علاء عبد الفتاح من سجنه، والتي تبدو صالحة لتكون مادة خام عن أي تصوّر ممكن حول العدالة: مثقف مسالم، مسجون بتهم عبثية تحت أبشع الظروف، ودون مراعاة للإجراءات القضائية الشكلية المعمول بها في بلده، مقابل دولة «ثقيلة» للغاية، بقوتها، المتجسّدة بأجهزتها العنفية والبيروقراطية الضارية؛ وانحلالها، الذي يجعلها أكثر تخبّطاً وتوحشاً في قمع مواطنيها. وسلاحه في هذه المواجهة ليس أكثر من جسده، وما تبقى من قدرته على الكلام. يرفض ببساطة حالة «الإنسان المستباح» التي حُشر فيها، فهي ليست وضعاً يمكن التأقلم معها أو اعتباره طبيعياً، وبذلك يصبح احتمال الموت، نتيجة الإضراب عن الطعام والشراب، تجسيداً أخيراً لحق تقرير المصير الذاتي، لا يمكن لأي سلطة انتزاعه، وهو أحد الحقوق، التي ناضل لأجلها عبد الفتاح طويلاً.
في هذا المعنى يبدو الكفاح لأجل العدالة المناخية محظوظاً هذه المرة في بلده المستضيف، فهو من جهة، لن يعود مجرد محاكاة ساخرة، بعد أن تحوّلت قمته إلى ميدان لصراع حول قضية فعلية وصادقة؛ واسترجع من جهة الأخرى، معانيه الأكثر عمقاً. إذ يمكن اعتبار «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية» الشعار الأساسي لثورة علاء عبد الفتاح ورفاقه، المغزى الأساسي للقضايا البيئية حول العالم: كيف يمكن للبشر أن يعيشوا ويستمروا ويمارسوا حقوقهم بانسجام مع مفردات حياتهم وبيئتهم، التي عانت طويلاً من ممارسات من ينظمون ويموّلون قمم المناخ عادةً. لن يلتفت المرء في شرم الشيخ لادعاءات «مصر» الدولة التي تقطع الأشجار، وتنفّذ مشاريع متخبطة، بكلفة اقتصادية واجتماعية وبيئية عالية، وكذلك لادعاءات ضيوفها، بل سيتعرّف على «مصر» أخرى، تستطيع أن تقول شيئاً صادقاً ومختلفاً عن العدالة، وهي من يستأثر الآن بكل الانتباه.
لكن، هل هذه مجرد مناسبة استثنائية، سرعان ما سيطويها النسيان؟ أم أن الرسالة، التي أوصلها علاء عبد الفتاح من محبسه، قادرة على تغيير شيء في الفهم المعاصر للعدالة؟

تشويش «الوعي البيئي»

ربما كانت قضية البيئة من أكثر القضايا المعاصرة، التي تعرّضت للتحوّل إلى محاكاة ساخرة عن نفسها، فعلى الرغم من كثرة الإسهامات الجدّية حولها، التي حاولت ربطها بالقضايا الاجتماعية والطبقية الأكثر إلحاحاً، إلا أنها استقرت غالباً على هيئة دين جديد لبورجوازية المدن الكبرى: أنماط استهلاك وسلوك وتغذية، مع محرمات عديدة؛ متنفّس لمشاعر الذنب والخطيئة، مع ميل لتأثيم الرغبة الإنسانية نفسها؛ خطاب إعلاني خشبي ومتكرر، يصنع نجوماً وناشطين، لديهم «نموذج الأعمال» الخاص بهم.
أحد أهم الانتقادات الموجهة لهذا النمط من «الوعي البيئي» أن كوكبنا نفسه لا يأبه كثيراً لممارساتنا، وسيستمر في دورانه، سواء تواصلت الحياة الإنسانية عليه، أم ضربها الفناء، ولذلك فإن العدالة البيئية، والبيئة نفسها، مفهومان إنسانيان أصلاً، يندرجان حتماً في النزاع السياسي الذي يخوضه البشر في ما بينهم. ما يجعلهما مرتبطين بقضايا أكثر تعقيداً من الحديث «الخطيئة» التي سقطت فيها البشرية منذ بداية التصنيع، والتي يجب أن يعيها الناس ليصبحوا أكثر «تواضعاً» وتناغماً مع «الطبيعة» (وهي مفهوم بشري آخر، اختلفت دلالته عبر التاريخ). وإذا اعتبرنا أن التصدي للمشكلة البيئية ليس مجرد نصرة لقيم مجرّدة، بل نزاعاً حول طريقة الإنتاج والاستهلاك وتوزيع الموارد، فسيصبح مبدأ «العدالة البيئية» متعلقاً بالسيادة أساساً: ما الفئة، أو الفئات الاجتماعية، التي ستقود الانتقال البيئي، وتحدد ماهية «العادل» فيه؟
مؤتمر المناخ في شرم الشيخ أعاد طرح الاقتراح القديم الساخر: السلطات القائمة لا بد أن تعي الكارثة البيئية المقبلة، وتتصرّف لتفاديها قبل فوات الأوان. هكذا يجلس الزعماء، وحولهم ناشطون ممولون بسخاء، يرفعون اللافتات ويفتعلون الاحتجاجات، لدفعهم إلى التصرّف، لكن النكتة هذه المرة كانت أكثر سماجة من أن يستطيع أحدٌ احتمالها. فالجدل حول «إنقاذ الكوكب» يتم برعاية واحدة من أكثر الحكومات تدميراً للبيئة، التي تدير، بتعثّر فاضح، حياة مواطنين، لا يكاد يبقى من «بيئتهم» شيء يذكر.

لا تحتاج قضية علاء عبد الفتاح لاستجداء التعاطف، فالتضامن معه، والسعي لحريته وحياته، هو الاختبار الفعلي لجدية وصدق أي فعل سياسي تحرري معاصر. وقد يكون الوعي بهذا، والعمل على أساسه، الاستعادة الممكنة لأفضل ما جاء به «الربيع العربي».

تبدو مسألة علاء عبد الفتاح مقبلة من خارج هذا السياق «البيئي» كله، فهي مشكلة معتقل رأي في بلد ديكتاتوري عالمثالثي، إلا أنها فعلياً استطاعت طرح أسئلة جدّية، قد تشوّش «الوعي البيئي» المعاصر: إلى أي مدى أصبحت قضية البيئة طريقة لغسيل ممارسات «ملوثة» تقوم بها حكومات وشركات كبرى حول العالم؟ إذا كان من السهل فضح الممارسات الرثة للحكومة المصرية، في محاولاتها تبييض صفحتها عبر استضافة مؤتمر بيئي، فماذا عن جهات أخرى كثيرة، تقوم بعمليات تبييض مماثلة، لكن بصورة أكثر ذكاء؟ والأهم: ألا يحتاج «الوعي البيئي» بالصيغة التي استقر عليها في أيامنا، تدخلاً من خارجه، أي من نضالات ملايين البشر لأجل الاستمرار بحياتهم، وتأمين الحد الأدنى من حقوقهم؟
قضية علاء عبد الفتاح سحبت الأضواء من ناشطي البيئة التقليديين والمعروفين، بغضبهم الذي يبدو تمثيلياً ومفتعلاً، ووجهتها إلى واحدة من المعارك الفعلية، التي يخوضها البشر حول سيادتهم على عالمهم ومصيرهم. ودون التفكير ملياً بموضوع السيادة هذا، فلا معنى لأي حديث عن «بيئة».

سجناء وقديسون

يبدو ناشطو البيئة المعاصرون، خاصة الأكثر شهرة منهم، تكراراً، مثيراً لبعض علامات الاستفهام، لصورة القديس المسيحي، أو بالأصح محاكاة ساخرة للقداسة. يهجر القديس ملذّات الدنيا ليكرّس نفسه للرب، يفعل الصواب دائماً، دون أن ينسى إبداء تعاطفه مع البشر الخطّائين، بكل ما يرتكبونه من شرور وآثام، ويحثّهم على الاعتراف بخطاياهم والتطهّر منها. الناشط البيئي قديس ملحد غالباً، أو لا يعلن توجهه الديني علناً، يكرّس نفسه لـ»الطبيعة» بدلاً من الله، مع نقمة، ممزوجة بالتعاطف، من البشر الخطّائين. يفخر بتقشّفه، منذراً دائماً بالأبوكاليبس القادم نتيجة الخطيئة. المراهقة السويدية غريتا تونبرغ المثال الأبرز عن هذا، وقد بات الجدل حولها، وبخصوص «المتنمرين» عليها، أحد أهم أحاديث الشأن العام المسلّية في عصرنا. ربما لا تكون المشكلة في مفهوم القداسة نفسه، إذ يبقى محرّكاً للعقل والخيال البشري، إلا أن طريقة التعاطي مع القيم، التي تنتج إحساسنا بالتعالي الأخلاقي، هي الأهم. يقدّم علاء عبد الفتاح نموذجاً أخلاقياً آخر، لا يدّعي القداسة أو البعد عن الخطيئة من قريب أو بعيد، لكنه يطرح أفضل انطباع أخلاقي ممكن عن الصراع لأجل ما نراه حقاً: الإنسان العادي، الصديق والأب والأخ، الذي يفعل كل ما يستطيع، رغم المعاناة الهائلة، كي لا يكون الظلم والعنف العاري هو الموجّه لحياتنا، ولكي يكون لنا صوت في تحديد أساسيات حياتنا، لهذا فقد تشكّل استعادة قضية عبد الفتاح، بفضل قمة المناخ الأخيرة، رداً مناسباً على المحاكاة الساخرة، التي يفرضها ناشطو البيئة المشهورون عالمياً.

العودة إلى «الربيع»

قد يكون أكثر ما يهدد قضية عبد الفتاح هو تحوّلها إلى موضوع فرعي لتضامن الناشطين الغربيين، الذين سيجدون فرصة جديدة لإبراز فضائلهم، بالتضامن مع ذلك المعتقل العالمثالثي، على هامش أجندتهم الأخلاقية الحافلة. من جهة أخرى، يكرر أنصار الأنظمة الاستبدادية في منطقتنا تهمهم المعروفة: المتضامنون مع علاء عبد الفتاح «يستقوون بالخارج» على بلدهم، ويحاولون استغلال أي فرصة ممكنة لفرض مصالحهم الفئوية، وانحيازاتهم الخاصة، على أبناء جلدتهم. ربما كان الرد الأمثل على هذين المنظورين هو السعي لإعطاء قضية علاء عبد الفتاح الحيثية التي تستحقها، بوصفها نموذجاً عالمياً للنضال لأجل الحرية والعدالة، ومنها العدالة البيئية، يكشف تهافت الأداء، الذي يقدمه كثيرون من أصحاب الامتياز في الشرق والغرب، سواء كانوا في السلطة، أو في معارضتها المكرّسة والمحظوظة.
لا تحتاج قضية علاء عبد الفتاح لاستجداء التعاطف، فالتضامن معه، والسعي لحريته وحياته، هو الاختبار الفعلي لجدية وصدق أي فعل سياسي تحرري معاصر. وقد يكون الوعي بهذا، والعمل على أساسه، الاستعادة الممكنة لأفضل ما جاء به «الربيع العربي».

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Hala Ahmed:

    يعني هو علاء عبد الفتاح المخلص للشعب المصري؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
    هو ليس اكثر من محرض على قتل الشرظة والجيش

  2. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي محمد سامي الكيال. مقال ممتاز في الحقيقة! ورب ضارة نافعة أو ربما من الأفضل القول، عسى ولعل أن ينقلب السحر على الساحر.

إشترك في قائمتنا البريدية