قوة الدعوة ودينامية الدعاء

الأقوال في العبادات والمعاملات لها قيمة إنجازية كبرى بالمعنى الذي تحدث عنه أوستين Austin الفيلسوف البريطاني صاحب نظرية الأعمال اللغوية. زعم هذا الفيلسوف التحليلي أن كثيرا من الأقوال التي تحمل في البلاغة الكلاسيكية على الأخبار لها طابع إنشائي أو إنجازي. وفي التراث النحوي العربي القديم ذكر رضي الدين الأسترابادي شيئا قريبا من هذا حين اعتبر قول البائع للشاري: (بعتك) إنشاء إيقاعيا، لأنه رغم بنيته الخبرية فإن به ينعقد البيع ويبرم الكلام تعاقدا عليه بين البائع والشاري. وما زال كثير من معاملاتنا اليوم تجرى بهذا الضرب من الإنشاء الإيقاعي، مثل قول القاضي في المحكمة: (فتحت الجلسة) أو قول مقيم الصلاة (قد قامت الصلاة).
ولكثير من الأقوال في حياتنا اليومية صبغة إنجازية مثل الوعديات وهي الأقوال التي يعد بها المتكلم مستمعه بشيء كأن تقول لمن استزارك (أعدك بزيارتك في ليلة رمضانية) فأنت بهذا القول أنجزت وعدا ردا على دعوة. الدعوة يمكن أن تكون عملا لغويا ينفتح على ضرب من الإنجازيات وهي الوعديات. وهذا ما نصرف إليه اهتمامنا في ضرب آخر من الدعوة الدينية.
كثير من أشكال الكلام المندرج في العقيدة يندرج في باب الإنجازيات ولطابعه الإنجازي بات له فعل مقدس بقطع النظر عن سر تلك القداسة. فعلى سبيل المثال فإن الأقوال التي تستعمل لاستمالة الناس إلى دين معين وهو المسمى دعوة، يمكن أن تكون أعمالا مقدمة للإنجازيات. ففي سورة غافر (الآيات 41-45) حوار بين «مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه» وقومه حول دعائه قومه إلى الدين الجديد ودعائهم له للمحافظة على التعاليم القديمة. استعمل الفعل «دعا» في الآيات المذكورة في صيغ كثيرة (أدعوكم، تدعوني، تدعونني) واستعمل الاسم (دعوة) في سياق فيه دليل على التشارك في الدعوة بينه وبين قومه، تشاركا عرضه في الآية (41) بقوله (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النارِ). لم يتوقف المفسرون عند فعل الدعوة لأنهم اعتبروا معناها واضحا يفهم بالحس اللغوي المشترك بأنه فعل مَن طلب من قومه أن يتبعوه إلى الديانة الجديدة ديانة موسى عليه السلام. تبرز الآيات كيف أن فعل الدعوة فعل تشاركي على الأقل بين هذا المؤمن وقومه، فهو يدعوهم إلى شيء وهم يدعونه إلى شيء آخر يعد نقيضا له. هو يدعوهم إلى أن يقطعوا مع إيمانهم القديم الذي يعتبره قائدهم إلى الهلاك والمصير الخاسر؛ وهم يدعونه إلى أن يظل في دائرة إيمانية قديمة. ففعل الدعوة بهذا الشكل هو فعل جاذب، إما إلى خارج دائرة عقدية مألوفة وإما إلى البقاء فيها؛ وأن فعل الدعوة هو فعل جاذب إلى دائرة إيمانية تقليدية أو جديدة.
كل فعل دعوة هو عمل قول يشتغل عبر مبدأ القوة الجاذبة Centripetal Force تعمل على الجذب إلى داخل دائرة إيمانية. فالدعوة ههنا بما هي حركة قولية دافعة بقوة معينة إما من داخل دائرة محافظة على تصورها الإيماني القديم وقوته الجاذبة تاريخية، لأن موضوع الإيمان ضارب في القدم، وإما من خارج تلك الدائرة وواقعة داخل دائرة إيمانية مستحدثة قوتها الجاذبة أنها مؤسسة لإيمان فعلي هو نقيض الوهم بالإيمان القديم.

كثير من أشكال الكلام المندرج في العقيدة يندرج في باب الإنجازيات ولطابعه الإنجازي بات له فعل مقدس بقطع النظر عن سر تلك القداسة. فعلى سبيل المثال فإن الأقوال التي تستعمل لاستمالة الناس إلى دين معين وهو المسمى دعوة، يمكن أن تكون أعمالا مقدمة للإنجازيات.

يعتبر اللساني الأمريكي Robert Talmy أن الكيانات الدلالية في اللغة تحتكم إلى ما يسميه ديناميات القوة Force Dynamics وهي إطار تصوري عام وأساسي يبين كيف أن الكيانات تتفاعل بالاعتماد على مفهوم القوة، تفاعلا نلحظه على الصعيد اللغوي في المتصورات. ونحن سنعتبر أن متصور دعوة هو من المتصورات التي تقتضي ديناميات القوة، ولذلك تتنزل متصوراته في تفاعلات القوى الذهنية إذ تبدأ بالإقناع والموعظة الحسنة، وقد تتنزل في تفاعلات القوى الجسدية حين تنشر العقائد بالفتوح. لنتفق من الآن على أن من يمارس فعل الدعوة بالمعنى الحسي الأول، يمكن أن يمارسها من داخل دائرة القوة أو الضعف. في دائرة القوة يمكن أن يلحظ ذلك بإشارة مقتدر إليك بالإصبع أن تعال، فأنت ستذعن لندائه وتتجه إليه. فعل الدعاء هو فعل صادر من مركز مكاني إلى هامش يقصد منه أن يتحول إلى مركز لذلك يكون فعل الدعوة فعلا فيه تملك لفضاء الآخر لاستجلاب من فيه إلى فضائه؛ هو ضرب من التملك يقصد به الاستحواذ – بفعل الدعاء- على من هم خارج نطاق المركز. فعل الدعوة هذا إن صدر من فرد إلى مجموعة سيكون فيه انخرام في موازبن القوى العددية، إلا إذا كان للفرد من السلطة ما يسمح للمجموعة أن تذعن له. وبالرجوع إلى دعوة مؤمن السورة أعلاه، فإن هناك ضربا من التشارك في الدعاء أو تبادله، لكن لا أحد غادر نطاقه أو دائرته، إذ تمارس الجماعة الدعوة إلى النار هذا من منظار المتحدث المؤمن. ليست النار محلا منه يتم الدعاء إليه بهدف، وإنما النار هي محل فكري أو عقدي يقع فيه من يدعون المؤمن إليهم، لكنه محله القديم قبل أن ينتقل إلى دائرة أخرى يمارس منها حق الدعاء ويسميها دائرة النجاة. النار هي مقابل للنجاة، فإن تفر من النار وتقع في الموقع الذي أنت فيه راهنا فذلك هو النجاة. باسم النجاة يحدث فعل الدعوة بما هو دينامية قوة فمن دائرة القوة يمارس فعل الدعوة الحركي، وباسم النجاة تدعى الجماعة كي تترك موقعها القديم وتلحق بالداعي الناجي. وباسم العادة تمارس الجماعة فعل الدعوة كي تدعو هذا الخارق الخارجي إلى العودة إلى الجماعة. لا يمكن أن تكون الجماعة على ضلالة، وأن النجاة لا تكون بالفرار من الجماعة بل بالفرار إليها، لم تمارس الجماعة فعل الدعاء العلني، بل إن هذا القول كان مضمنا في بناء المؤمن لفعلها، ولذلك مارس الداعي قوة أخرى دينامية هي قوة التأويل ذي الاتجاه الواحد حين حكم على موقعها بأنه موقع النار والهلاك وحكم على موقعه بأنه موقع النجاة.
التفصيل في فعل الدعوة كان في الآية اللاحقة (41) (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفارِ) ما كان مختصرا في الجحيم صار مفصلا تفصيلا سببيا، فليس الجحيم موضوع الدعوة، بل هو من مستلزماتها هو عقاب يقع على من كان في دائرة القوم ومن دعا إلى التشبث بموقعهم القديم وهو موقع الكفر والشرك. الأصل أن فعل الدعوة لا يكون للشرك، بل يكون للإيمان ولهذا فإن ما سمي دعوة هو مآل لما عليه القوم المتشبثون بما هم عليه، ولذلك ورد في الآية اللاحقة (لا جَرَمَ أَنمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ) انتقلنا هنا من فعل الدعاء إلى اسمه (دعوة) بعض المفسرين فهمه على أنه دعاء لا يدعى به، ولا يدعى عليه بل هو مصير لا يمكن أن يغير.
ما يهمنا في هذا السياق هو الانتقال البديع من فعل الدعوة، بما هي قوة دينامية إلى فعل الدعاء بما هو فعل ينم عن قوة خاضعة للرب. هل يمكن أن يكون الدعاء في أصله دعوة لم تلق من يستجيب لها، فتحولت من فعل أفقي بين الداعي ومن يدعوهم إلى فعل عمودي بين الداعي والله، باعتباره مسخرا كي تصبح الدعوة عملا فعليا وهنا لا يمكن أن تكون الدعوة عملا قوليا مباشرا أو إنجازيا، دون تدخل إلهي لا في مسار الدعوة، بل في مسار التاريخ فأكثر ما يجمع بين الدعوة والدعاء عقديا أنهما رغبة في تعديل مسار تاريخي مرغوب عنه إلى آخر مرغوب فيه.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية