«قومي يا مريم» للسورية رباب هلال: قصص من الحرب بلغة تداعياتها

في «قومي يا مريم» التي تبث رباب هلال عبر بنائها، رائحة خصوصيتها مع رائحة الغاردينيا، تمنح للمجموعة مسماها القصصي بجدارة، وتتجلى ثيمتها التجريبية، في تكثيفها للزمن وتقصّيها لتداعيات الحرب، بلغة قاسية وتراكيب غرائبية، تنبض مع هلع الأحداث، وتتصاعد مع دخانها.. فتبهت ملامح الشخوص في هول المشهدية، ووقع صداها مع الحرب ومن الحرب، عبر زمن محكم بحرفية، لا يمنح للقصص شكلها وحسب، بل يصير جزءاً من بنائها العام بفعل إبداعي وأبعاد ودلالات جمالية.

ثنائياتها الخاصة

بالتأكيد لا يتوقف الزمن في القصة القصيرة على الزمن الوقائعي والزمن التخييلي رغم دورهما المحوري، فالزمن في تحققه النصي والدلالي قد يتجلى بفيزيائية محدّدة كأيام الأسبوع والفصول الأربعة، والماضي والحاضر والمستقبل، أو في أزمنة تاريخية دالة، كالحرب والثورة، أو وجودية كالولادة والموت، وأزمنة نفسية كالهلع والتّيه والانتظار.. ومع كل هذا زمن القصة القصيرة تتحكم فيه طبيعتها التخييلية والسردية والجمالية، ليصير زمناً يميزها عن غيرها من الأجناس الأدبية الأخرى، خاصة الرواية التي تتقاطع معها في كل المكونات ما عدا الزمن.
رباب هلال تدرك هذا جيداً، وبناء الزمن في قصصها ليس مجرد إجراء ليمنحها شكلها، بل هوّ فعل إبداعي وبناء جمالي، ضمن ثيمة تجريبية تشي بها ثنائياتها الخاصة في أغلب قصصها، إذ تصرّ دائماً على ضبط زمنها الوقائعي، أي حركة الشخصيات في المكان، وتوازيه بزمن ثانٍ قد يكون هطول مطر، أو رائحة غاردينيا، أو صوت رصاص، أو زمن ترقب وانتظار.. أو حوارا، أو حتى مشهدية ثانية لحكايات متداخلة.
في «غاردينيا بين الأصابع» تنسج خيوط قصتها مع عنوانها، فتكون رائحة الغاردينيا المرافقة «للساردة» في طريقها إلى البيت.. ومن مشاهداتها تنطلق تداعياتها لتحكي عن الحرب، هذه المرأة تشبه صديقتها التي.. وهذا يشبه صديقها الذي.. وبتلقائية ذكية تقول عن نفسها إن «لعبة التشابيه ولع قديم بي» محاولة تبرير اتكاء تداعيات القص على تلك اللعبة.. وعبر النسمة التي تهز الظلال والنسمة العجولة والعليلة.. ترافقها رائحة الغاردينيا حتى وصولها إلى حارتها: (يختفي الهواء، مثلما يختفي باقي جسدي وشجيرة الغاردينيا وشرفتي تحت أنقاض المبنى..) نهاية موجعة، ومحكمة الإغلاق لأزمنة القصة.
الزمن الوقائعي الإجباري في قصة «الحاجز» هو التوقف للتفتيش، ومن تفاصيل الأحداث، التي تفرزها الحواجز عادة، يتوالد السرد، وتختلط الأزمنة بين الماضي والحاضر، والخوف والترقب والتوقع.. ومع ذلك لا تتخلى هلال عن ثنائيتها الخاصة، إذا ترافق زمن التوقف في الحاجز حالة عطش بانتظار الماء.. وبخاتمة جميلة تكون النهاية التي حكت عنها بطلة القصة (الساردة) عن فظائع الحواجز ومعاناة أصدقائها، هي نهايتها.
في قصة «صباح يختلف قليلاً « زمن القص يرتبك قليلاً، الآنسة نجاة تنزل الدرج وتذهب إلى دكان بائع الخضار، ويرافق حوارها مع البائع، ووصف مرضها من «سارد» خارجي، أزيز رصاص وأجواء الحرب، لكن لا تتوقف الحكاية هنا، بل تتخللها حكاية ثانية بحدث وشخصيات وزمن آخر.. طفلة فيها مسٌ ما، تدور صارخة ويدور معها رجل وطفل، وتدور وصوت الرصاص يعلو.. ويعلو الضغط والسكري عند الآنسة نجاة وتسقط أرضاً.. ويتهلل بناء القصة «المكثف» وتضعف الحكاية الرئيسية.
ثمة ثنائية مغايرة، تمنح لرباب خصوصيتها أيضاً، وهي زمن الحرب وزمن الشتاء، وبذلك تجمع في أغلب قصصها الأزمنة الفيزيائية والتاريخية والوجودية والنفسية.. وفي قصة «دعاء أسعد» التي لم تضع الكاتبة عنوانها «سقوط أسعد» كي لا تخرّب عنصر التشويق، وتبدد تسلسل المفاجأة.. ثمة تكثيف لافت للزمن، فيه ترقب وخوف ومطر.. تشارك (الساردة) لحظة سقوط أسعد من شرفة منزله، وتلهث الحكايات عن إفرازات الحرب وتداعياتها مع لحظات الترقب ووهلة السقوط.. وقد يكون الزمن الموازي للزمن الوقائعي حواراً، كما في قصة «موعد غرامي» حوار الأم المقصود ليؤخر هذا الموعد. وقد يكون الزمن النفسي، زمن انتظار الغائب الموازي لمونولوج داخلي مثل قصة «تمسك بي يدُك». وقد تتداخل الأزمنة بين الماضي والحاضر، وتختلط الأحداث بين الواقع والخيال، كما في القصة الأولى «إنهم هنا» فيغدو الزمن مربكاً ومركّباً بسرد مكثف للهذيان والقتل والموت والغرق والجثث، التي تدخل إلى البيت وتحت السرير.. فيصير القول الذي أرادت أن تقوله الكاتبة عن الحرب أكبر من الحكاية الحاملة له.

رباب هلال

مسحة غموض

في مكونات المجموعة مسحة غموض، قد تمنح للقارئ فضولاً رشيقاً يركض به إلى معرفة وضوح الصورة الكلي، وقد تفتح بوابات الأسئلة وتمنح للقصة أبعاداً رحبة.. وقد تضفي على اللغة بعداً شعرياً وجمالياً، ومجازات واستعارات موحية وساحرة، وقد تكون للمواربة والتّقية، خاصة في الكتابة عن الواقع وانزلاقاته، وقد تصل إلى عدم احترام ذكاء القارئ.. وهذه المسحة لا تكون فقط في نهايات القصص، فقد تكون بالحبكة ذاتها، وبالتراكيب اللغوية، وبالشخصيات أيضاً، وربما في القصة ككل.

في هذه الفضاءات الزمن الكلي المهيمن، هو زمن الحرب، وتصرُّ الكاتبة على ربط كل قصصها به، رغم أن قصة مثل «سكر بنات» عن الخيانة الزوجية، وقصة مثل «عند الفجر» عن القتل من أجل الشرف، قصتان بعيدتان عن الحرب، وتحدثان في أي وقت دونها.

أمام هول الواقع وهلع الأحداث، وسعي الكاتبة للإحاطة بكل تداعيات الحرب، في فضاء قصصها، تبهت ملامح الشخصيات، وتشوبها مسحة غموض، وتغيب تفاصيل مضامينها ويضعف تفاعل مرجعياتها مع الأحداث.. وربما قصة «قومي يا مريم» تفصّل إلى حد ما بشخصياتها، لكن الغموض في نهايتها يحبط إيقاعات القارئ. كما الغموض الحميد في نهاية «دعاء سعد» الذي جاء ليخفف من صدمة السقوط، لكنه وضع القارئ أمام حيرة مشوشة. وفي قصة «عند الفجر» يكون الغموض في الحبكة، فلا يعرف القارئ أكان «نمر» قد اغتصب «ندى» أم لا، وعليه لماذا قام أخوها «ديب» بذبحها من أجل شرف عائلته. وقد يكون الغموض من أجل المواربة أو التقية، ويأتي ذلك برمزية تارة، وبوضوح تارة أخرى، كاللباس الأسود الكامل للشيخ في قصة «الضيوف» ولباس «نمر» في قصة «عند الفجر» وكالهتافات غير المكتملة في قصة» قرصة برد».. وفي أغلب القصص النهايات المفتوحة يكتنفها الغموض، الذي قد لا يحترم ذكاء القارئ، أو قد يمنحه دلالات جدلية متعددة وأسئلة جديدة.
إن حمّلت رباب هلال بعض شخوصها المسؤولية «كسقوط أسعد» أو أوحت بعقاب لبعضها الآخر، كما في نهاية «عند الفجر» إلا أنها تحاول أن تكون حيادية، وتحرص على أن تبتعد عن الأيديولوجيا والسياسة، والمناطقية والطائفية.. وإن أشارت إلى أصل شخصية ما، فيكون الغموض في عدم ربط هذا الأصل بموقفه من الحرب، وحتى في حديث شخوصها عامة، جميعهم يدينون كل أطراف الصراع المسببة للحرب.
تتميز لغة المجموعة بتباين مستوياتها، تبعاً لاختلاف شخوصها، وتنوع السارد، وتعدد الضمائر (أنا، هي، هو، أنت) أما الغموض فقد يكون إبداعاً شعرياً، لكن هل يتناسب مع لغة القصة الدالة والموحية بجملها القصيرة الواضحة؟ وهل بعض الكلمات العامية، التي دون أقواس أو هوامش، كل القراء يعرفون معانيها؟
البعد الجمالي للتراكيب الغرائبية عند القاصة هلال، لا يتوقف عند تعبير اللغة القاسية عن تداعيات الحرب وحسب، بل هناك «أنسنة» لكل المكونات المشاركة في القصة، والأمثلة في المجموعة كثيرة: (تفجّر لهاثي وتناثر في فضاء الغرفة.. كانت كأس الماء تصطك.. تبتره الأصوات.. تذبحه الانتظارات.. تتكاثر ديدان جثث..) واللافت في بحث الكاتبة عن لغتها الخاصة إنها ليست من الحرب فقط، ففي قصة «سكر بنات» تتجلى اللغة بجمالية رومانسية رائعة، في ذكريات العشق، وتواكب حالة التطهر من الخيانة، واللحظات المؤلمة التي عاشتها البطلة مع هذه الحالة، عبر قطعة السكر المزيلة للشعر (ليس من السهل أبداً سلخ تلك الموسيقى.. الوقت يسيل لزجاً ودبقاً.. انسلخ جلدها كاملاً وانخبص في قطعة السكر..).

فضاءات المجموعة

فضاءات المجموعة القصصية محدودة تقريباً، فهي في الطريق إلى الحارة، وعند حواجز الطريق، وفي الحارة متلاصقة البنايات، الضّاجة بما هب ودب من النازحين غير المتجانسين، أو في أماكن محددة بأسماء مثل جبل قاسيون، باب توما، حارة ساروجة.. وقد يكون هناك أكثر من فضاء في قصة واحدة، ففي «الضيوف» الطريق إلى البيت، فضاء للقصة في زمنها الحاضر، والبيت بضيوفه في تداعي (الساردة) في الزمن الماضي، وفي نهاية القصة يعود البيت للزمن الحاضر، لكن بين هذه الفضاءات تترهل الأحداث المحكي عنها وتتكرر صور الحرب وإفرازاتها، وتغدو اللغة تقريرية بطيئة الإيقاع.
في هذه الفضاءات الزمن الكلي المهيمن، هو زمن الحرب، وتصرُّ الكاتبة على ربط كل قصصها به، رغم أن قصة مثل «سكر بنات» عن الخيانة الزوجية، وقصة مثل «عند الفجر» عن القتل من أجل الشرف، قصتان بعيدتان عن الحرب، وتحدثان في أي وقت دونها.
ويبقى السؤال: لماذا تكرر رباب هلال، في أغلب قصصها، البرد والمطر، وأسماء مثل أم فارس الجارة الفضولية، وديب، والآنسة نجاة؟

كاتب فلسطيني/ سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية