قوى الثورة المضادة… الاسلام السياسي والديمقراطية

حجم الخط
2

ما لم يتم استيعاب ظاهرة الاستبداد في عالمنا العربي واساليبها، فلن يكون بالامكان تدشين مشروع فاعل لتحقيق الحريات العامة واقامة ممارسة ديمقراطية مستدامة. فحتى لو حدثت الثورات وسقط بعض الانظمة الديكتاتورية فلن تستبدل بديمقراطية فاعلة لسبب اساسي مهم:
ان الانظمة الحاكمة في عالمنا ستحارب التغيير ليس بما لديها من امكانات امنية وعسكرية فحسب، بل بما تستطيع تجنيده من امكانات لدى ‘الاصدقاء’ الغربيين. وهناك ثلاث خصائص لهذه المنطقة التي تعاني من الاستبداد، تجعل تعامل الغربيين معها مختلفا جملة وتفصيلا عن تعاملهم مع مشاريع التغيير في المناطق الاخرى. فهناك النفط الذي ما يزال السلعة الاستراتيجية الاساسية في التعامل التجاري بين المنطقة والغرب، وهناك الكيان الاسرائيلي الذي ما يزال الغربيون خصوصا الامريكيين يعتبرونه جزءا لا يتجزأ من مشروعهم ‘الحضاري’ وامنهم السياسي. وهناك مشروع الاسلام السياسي الذي ينظر اليه الغربيون منافسا حقيقيا للهمينة الغربية على العالم.
وبالتالي يصر الغربيون على دعم الانظمة القائمة التي تعتبر من اشد انظمة العالم تخلفا وديكتاتورية واستبدادا. ولذلك ما ان أطل الربيع العربي بنضارته حتى تضافرت جهود الانظمة العربية والغربية لمواجهته بابشع الوسائل واقذر الاسلحة. وبرغم تعدد القضايا التي تستحق الدراسة الواعية من قبل مفكري الامة ونشطائها، فما يزال اعلام التحالف العربي الغربي المضاد للديمقراطية قادرا على التزوير والتجهيل والتمزيق. هذه القدرة ليست بسبب كفاءته بل نظرا لانعدام اخلاقه وقيمه واستعداده لاغتيال ابسط مبادىء الوئام والتوحد، وعدم تردده في استخدام اقذر الوسائل التي تضمن غياب وحدة الموقف سواء بين الشعوب الرازحة تحت حكم الاستبداد ام بين ابناء الشعب الواحد. واذا كانت الحركات الاسلامية التقليدية تعتقد ان تبنيها مشروع الاسلام السياسي سيضيف الى قوتها وشعبيتها، فعليها ان تدرك ايضا ان التحالف المناهض للتغيير اصبح قادرا على استخدام الدين سلاحا ضد التغيير، بتزوير رسالته وتمزيق ابنائه وتفتيت اتباعه. واذا كان علماء الدين والمؤسسات الاسلامية تعتبر ان ‘الاجتهاد’ الفقهي عامل ايجابي بناء للمشروع النهضوي الاسلامي، فان هذا الاجتهاد نفسه يستخدم من قبل اعداء ذلك المشروع لتحويل ‘الاختلاف الاجتهادي الفقهي’ الى ‘خلاف عقيدي’ ويؤسسون باجتهادهم المنحرف لمبدأ القتل على الهوية والانتماء وشرعنة ازهاق ارواح المختلفين فقهيا، واشاعة روح التكفير الذي اصبح يطبق ليس ضد اتباع المذهب الآخر بل ضد من يمارس الاجتهاد الفقهي داخل المذهب الواحد، فتهرق دماء المختلفين في قواعد الفقه والاستنباط.
مسألة الصراع من اجل التغيير توسعت اذن لتتحول الى قضية مقلقة ومدمرة، ليس لانها حقيقية او تستند الى منطق الاجتهاد وتفعيل العقل، بل لان التغيير اصبح مرادفا باتجاه مضاد لمصالح مادية وسياسية واستراتيجية غير مسبوقة في علاقات الدول. وبملاحظة القضايا الاستراتيجية الثلاث المذكورة، اصبح الغربيون والانظمة العربية في خندق واحد. فجميعها يتأثر ايجابا لصالح الشعوب العربية والاسلامية اذا ما سمح لهذه الشعوب بالشراكة السياسية الحقيقية وفتحت الابواب امامها لتقرير مصائرها واختيار الانظمة التي ترتئيها. ولذلك تناضل هذه الشعوب من اجل الحرية والديمقراطية، وتقدم التضحيات بدون حدود، ولكنها سرعان ما تصطدم بالمعوقات المحلية والدولية المتمثلة بحماية الانظمة ومنع سقوطها. خيارات الشعوب العربية محصورة جدا، فاما القبول بالاستبداد والديكتاتورية او التعرض للقمع وانتهاك حقوق الانسان ان هي اصرت على سلوك نهج التغيير. وقد وجدت الانظمة العربية ان بامكانها ضمان المواقف والسياسات الغربية وذلك اذا انتهجت سياسات مسايرة للغربيين. ففي الجانب النفطي، تعهدت انظمة الدول النفطية بضخ النفط بمعدلات واسعار مناسبة للغربيين.
اما اسعار النفط فما تزال هابطة برغم طفرتها قبل بضعة اعوام. والنفط سلعة استراتيجية ضرورية لتشغيل الاقتصاد الغربي، ولم تعد للدول العربية المنتجة والمصدرة للنفط حق التدخل لتوجيه السوق النفطية بما يخدم مصالح شعوبها، بل أسلمت القياد للغرب في هذا الجانب. يضاف الى سياسة تزويد الغرب بما يحتاجه من نفط بمعدلات انتاجية واسعار تناسبه، فحتى اذا ارتفعت أسعاره، فان العائدات المالية من بيع النفط سرعان ما تجد طريقها الى اوروبا والولايات المتحدة في شكل استثمارات او صفقات سلاح عملاقة. بينما بقيت البنى التحتية بدول مجلس التعاون متخلفة عن المستويات التي تحقق القوة الذاتية، ولم تنفق اموال النفط الفائضة على مشاريع تنموية او اكتفاء ذاتي. بل ان مواطني هذه الدول يعانون من ظواهر البطالة والغلاء وعدم توفر السكن والصعوبات الحياتية بالاضافة للشعور العام بفقدان السيادة على القرارات المهمة ذات البعد السياسي.
الغربيون، من جانبهم، تخلوا عن مبدأين اساسيين في تعاطيهم مع النضال الوطني من اجل التغيير في الدول العربية. فلم يعد ترويج الديمقراطية على سلم اولوياتهم، ولم تعد الانتهاكات الفظيعة لحقوق الانسان تهز ضمائرهم، او تحركهم لتفعيل مواثيق الامم المتحدة خصوصا التي اقرتها قمة فينا لحقوق الانسان في 1993.
ويمكن القول ان التخلي الغربي عن ترويج الديمقراطية في العالم العربي اصبح يمثل جوهر السياسة الغربية تجاه الشرق الاوسط. وكما حدث في الاجتماع السنوي الاخير بالمنامة في شهر يونيو الماضي بين وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ودول الاتحاد الاوروبي، فقد تغاضى الجانب الاوروبي عن هاتين المسألتين واكتفى بمناقشة القضايا الاقتصادية وتطويرها. وكانت قضية حقوق الانسان احد البنود المدرجة على جدول اعمال الاجتماع السنوي عندما انطلق قبل سنوات، وحالت قضية حقوق الانسان وقتها دون توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين الطرفين. ولكن الجانب الاوروبي تغاضى تدريجيا عن هذه القضية، حتى ان كاثرين آشتون، مسؤولة العلاقات الخارجية بالاتحاد الاوروبي تجاهلت في اجتماع المنامة الانتهاكات الحقوقية في السعودية والبحرين.
ويقول الاوروبيون انهم يفضلون ‘الدبلوماسية الصامتة’ في هذا الجانب وانهم يثيرونها في اللقاءات الخاصة ويتحاشون الحديث عنها في العلن. انه تبرير غير مقبول لان الضغط انما يتولد نتيجة التصريحات العلنية، وليس عندما يشار الى الانتهاكات في اللقاءات الخاصة. أيا كان الامر فان موقف الاتحاد الاوروبي لم يكن افضل من الامريكي ازاء الربيع العربي، فلم يحدث دعم حقيقي للثورات، بل تم تحويل بعضها الى ازمة عسكرية ما تزال اصداؤها تتردد في المدن السورية المدمرة. اما الديمقراطية والسعي لترويجها فهي خارجة عن جدول اعمال الاتحاد الاوروبي الذي صمت على الانقلاب العسكري في مصر ولم يشر اليه بالادانة. وتمارس الولايات المتحدة سياسة نفاق واضحة، فلم تصدر بيانا واضحا ازاء ما جرى في مصر من انقلاب ضد حكم الاخوان المسلمين، بل اكتفى الرئيس اوباما بالتعبير عن قلقه ازاء الانقلاب العسكري.
وبرغم الضغوط على الولايات المتحدة الامريكية لتبرير مواقفها وسياساتها ازاء الربيع العربي عموما ومصر بشكل خاص، الا ان البيت الابيض اصدر الاسبوع الماضي قرارا بانه لن يتحدث عن الانقلاب ولن يصدر موقفا واضحا ازاءه.
المطلوب اذن، وفق المشروع العربي الغربي المشترك لمنع الاصلاح السياسي، ممارسة سياسة فاعلة تساهم في تضليل الرأي العام من جهة، وتشغل المواطنين بامور اخرى غير متصلة بالمشروع السياسي الاصلاحي. وقد تفتقت عبقرية منظري الثورة المضادة عن عدد من الاساليب في طليعتها سلاح الطائفية. بدأ استخدام هذا السلاح في العراق لاهداف عديدة منها: اولا: تفتيت وحدة الامة بشكل يستعصي على محاولات الاصلاح والوحدة. ثانيا: إشغال القطاعات المجتمعية ببعضها باثارة الحساسيات الدينية والمذهبية لمنع تبلور توجهات وطنية في الدول العربية تعمق مواجهة الديكتاتورية والاستبداد، ثالثا: اخماد روح الثورة ومنع وصول تيار التغيير للبلدان ذات المنابع النفطية وهدر الطاقات في الصراع البيني الذي يحطم آمال الاجيال المتطلعة للحرية.
رابعا: اضعاف التوجه الشعبي للقضايا الكبرى سواء في مجال الاصلاح السياسي ام مواجهة الاحتلال الاسرائيلي ام التصدي للهيمنة الغربية على العالم العربي. والا فماذا تعني الحرب الطائفية الضروس التي يتصاعد لهبها في العراق او باكستان مثلا؟ ولماذا ممارسة القتل على الهوية بالشكل الذي يحدث في العراق. فبالاضافة لاستهداف المساجد والحسينيات والاضرحة والاسواق بالقتل الجماعي، يستهدف المواطنون بالقتل على اساس الهوية. فمن يستطيع تفسير ما جرى الاسبوع الماضي على الطريق ما بين بغداد وكركوك؟ فقد تم اعدام 14 من سائقي حافلات النقل لانهم شيعة، وليس لاي سبب آخر.
المسلحون اخذوا الشاحنات، فيما تمكن عدد من سائقي الشاحنات الاخرى من الفرار نحو قرى قريبة من موقع الهجوم على بعد 10 كلم جنوب ناحية سليمان بيك التي تبعد 140 كلم شمال بغداد. فكيف انحدرت الامور الى هذا المستوى من السقوط الاخلاقي؟ متى كانت امة العرب والمسلمين يقتل بعضها بعضا على اساس الانتماء المذهبي؟ الهدف واضح: اثارة حرب طائفية شاملة في العراق لاسقاط نظامها ليس لانه تحت هيمنة ‘الشيعة’ كما يروج، بل لانه ناجم عن خيار شعبي عبر صناديق الاقتراع. ولو كان النظام ‘سنيا’ لاستهدف باساليب اخرى، كما حدث في مصر. هناك وحدة هدف لدى قوى الثورة المضادة، مع اختلاف في الاساليب. فبعد ان تم اسقاط حكم الاخوان المسلمين في مصر بانقلاب عسكري، تفاقم الضغط على العراق لاسقاط حكمه بسلاح الطائفية. وتونس هي الاخرى تنتظر دورها وفق مشروع استهداف الانظمة ذات الطابع الديمقراطي. فمن الذي قتل المعارض البارز محمد البراهمي في تونس؟ أليس ذلك استمرارا لمشروع قوى الثورة المضادة التي شعرت بالقوة بعد الانقلاب العسكري في مصر؟ فماذا كانت ردة الفعل ازاء هذا الاغتيال الاجرامي؟ اتهمت شقيقة البراهمي حركة النهضة الحاكمة باغتياله، وقالت شهيبة البراهمي (50 عاما) لمراسل فرانس برس ‘حركة النهضة هي التي قتلت أخيô منذ اغتيال (المعارض اليساري) شكري بلعيد (في السادس من شباط/فبراير الماضي) كان لنا احساس بان محمد (البراهمي) سيلقى نفس المصير’. وأضافت وهي في حالة انفعال شديد ‘لا نريد بعد اليوم ان يعيش معنا أصحاب اللحى’.
أليس ذلك هو المطلوب من وراء الاغتيال؟ وهل يعقل ان تقوم حركة النهضة باغتيال المعارضين؟ فالانظمة عادة تمنع هدر الدماء في شوارعها لكي لا يتحول ذلك الى ظاهرة تعمق الشعور بعدم قدرة النظام على ضبط الامن. فحتى لو اراد نظام ما تصفية الحسابات مع خصومه فانه يعتقلهم ويحاكمهم، وقد يلجأ في حالات قصوى لاغتيالهم خارج البلاد. ان حركة النهضة مستهدفة من قبل قوى الثورة المضادة لانها جاءت عبر صناديق الاقتراع بعد ثورة شعبية اطاحت باحد اعمدة نظام الاستبداد العربي، فلا بد من اسقاطها، كما اسقط حكم الاخوان في مصر، وهذا ما سيحدث ان لم يتحرك رموز الحركة الاسلامية بوعي واصرار وموقف ثابت لافشال اسلحة قوى الثورة المضادة واهمها الطائفية. ولن يكون غريبا ان تبدأ المسيرات المناوئة لحركة النهضة وتصويرها بعبعا شريرا، وانها فشلت في ادارة البلاد ومارست الاستبداد والقمع، ليتكرر سيناريو ما جرى في مصر.
المشكلة ان الوعي المطلوب لاستيعاب هذه الحقائق وربط الوقائع مع بعضها غير متوفر لدى مفكري الحركة الاسلامية وحركاتها. كما تفتقد هذه القيادات البصيرة التي توفر لها النظرة الثاقبة لخطط اعداء ‘الاسلام السياسي’. وبساطة التفكير والالتزام الديني يصل مستوى من السذاجة احيانا يساعد قوى الثورة المضادة على تمرير مقولات تمثل جزءا من السلاح ضد التغيير. ففي الوقت الذي كانت تلك القوى تخطط للانقضاض على الاخوان والنهضة، كان بعض رموزهما منساقا لمقولات روجتها وسائل اعلام تلك القوى، خصوصا ما هو منها ذو بعد طائفي يهدف لضرب رواد المشروع السياسي على جانبي الانتماء المذهبي بجرهم لمعارك طائفية بدعاوى ليس لها واقع.

‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول إيهاب امين:

    قد يكون ماقلت سيدي الكاتب صحيحا إذا كنت تقصد بالإسلام السياسي الوطني الواعي بقضايا الأمة أمثال عمر المختار ومحمد أحمد المهدي وسعد زغلول واحمد عرابي
    أما أن تتحدث عن محمد بديع وراشد الغنوشي والمعزول محمد مرسي فهذا مع احترامي لك هراء وأنا دائماً أنبه الي النظر اليهم من خلال تجربتهم في السودان وحجم الدمار الهائل الذي أحدثوه في البلاد ما يعجز عن فعله اشد أعداء الدين
    أما عن ثقافة الاغتيالات السياسية فحدث ولا حرج أيضاً في السودان أبشع
    إذ ابتدع الإخوان ثقافة اغتصاب معارضيهم جسديا بممارسة أفعال قوم سيدنا لوط عليه السلام وآخرها كان اغتصاب ظابط جيش جسديا وهناك الكثير سيدي الكاتب وان شئت التأكد ما عليك إلا الذهاب الي اليوتيوب
    وإعدام ٢٨ ظابط جيش في شهر رمضان فعن أي ثورة مضادة فالاخوان
    المتاسلمين هم حجر الزاوية واحد اهم أعمدتها في عالمنا الإسلامي
    واحد أسباب تخلفنا الي اليوم

  2. يقول hassan casablanca:

    المشهد بشع ومروع وما زالوا يكذبون ويكذبون ويتحرون الكذب حتى قد كتبوا عند الله كذابين (سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الكَذَّابُ الأَشِرُ) (القمر:26)
    إن المعركة باتت واضحة لمن كان لديه عدم وضوح في رأيه أو رؤيته : إنه حق وباطل كما كانت انتخابات الإعادة في الرئاسة، بعد أن كان هناك تشتت آراء في الجولة الأولى، (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال:42).. إما حكم الحرية والديمقراطية والكرامة التي تحملنا فيها لمدة سنة كاملة اتهامات باطلة وبذاءات وحرق وتدمير ممتلكات وتضليلا إعلاميا أساء استخدام حريته ولم يسجن أحد ولم يدافع عنا حتى واحد، وإما البديل الآن قتل ودماء وصوت واحد وتكميم أفواه وإغلاق قنوات وتلفيق تهم، وسجن واعتقال لقيادات إسلامية وسياسية، ومهما بلغ من المسيخ الدجال التضليل والرؤية العوراء بعين واحدة فلن نخدع في جنته ولا في ناره، ونسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.

إشترك في قائمتنا البريدية