بداية من ستينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا، انتشر على المستوى العالمي فيروس تحول إلى وباء، وبات من الصعب ليس فقط تفسيره، بل وتقفي آثاره، وتحليل ظواهره؛ خاصة أن هذا الوباء لا يستهدف إلا العقول فقط. والأغرب من ذلك، أن لهذا الوباء قوة ضاربة، اشتدت حدتها بداية من مستهل الألفية الثالثة. فهو ينمو، ويتكاثر تماماً مثل أي كائن حي، ويتسلل خلسة ليهيمن على عقول العامة، وينصب نفسه لغة التواصل الدارجة التي يفهمها كل البشر على المستوى العالمي. لا تفكر أبداً وأن ترد على ما طرحته سلفاً بإيموجي مندهش، أو بصورة معروفة تعبر عن التعجب، أو التهكم، أو حتى تعلق بمصطلح «لول LOL»، فتلك ما هي إلا عينة من ذلك الوباء: وباء «الميمز».
تسبب تفشي «نظرية التطور» Evolution Theory للعالم الإنكليزي تشارلز داروين (1809-1882) التي تشدد على مبدأ أن «البقاء للأصلح»، في أن يبذل جميع البشر جهدا مستميتا للفوز في جميع معارك الحياة اليومية، سواء الكبرى، أو حتى تلك التي لا قيمة لها. فقد بات جذب الانتباه، والتميز، والفوز هو الوسيلة الوحيدة لضمان البقاء. ومن أهم وسائل جذب الانتباه السريع هو إطلاق كلمة مميزة غريبة، أو صورة، أو حتى إيماءة للتعبير عن التميز والابتكار- تماماً مثل إطلاق الإفيهات في عالم التمثيل – ثم تأخذ هذه الكلمة أو الصورة الانتشار السريع بين البشر لتكون «الميمز/الميمات» Memes، أو الجين الأناني كما أطلق عليه ريتشارد دوكينز عام 1976. ومن الجدير بالذكر أن دوكينز هو أول من صاغ هذا المصطلح في كتابه «الجين الأناني» The Selfish Gene كمحاولة منه لتفسير كيفية انتشار المعلومات الثقافية، والاقتباسات بين البشر على المستوى العالمي. وقد عرف ريتشارد دوكينز «الميمات» بأنها «وحدة النقل الثقافي، أو مجرد محاكاة»، بالتأكيد لأمر ما على أرض الواقع. وكان مثاله على ذلك (كما هو منتشر في ذلك الوقت) القوافي والأغاني والمقولات الشعبية والنكات والعبارات اللافتة المتداولة، وكذلك الموضة. على سبيل المثال: موضة التشارلستون المنتشرة في سبعينيات القرن الماضي، أو أسلوب تصفيف الشعر بطريقة ضخمة، أو حتى ملابس ألفيس بريسلي.
أما ميمات الإنترنت Internet Memes المنتشرة في الوقت الحالي، فما هي إلا لون ثقافي آخر انبثق من الثقافة الفرعية التي كونتها الوسائط الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعي. وقد كان أو من اقترح طرح هذه المفهوم عن ميمات الإنترنت هو مايك جدوين في مقاله المنشور عام 1993 في مجلة Wired»» الأمريكية الشهرية؛ حيث وصف فيها أن ميمات الإنترنت ما هي إلا تغيير متعمد لشكل الميمات التقليدي، بطريقة إبداعية، وضعت عليها لمسات بشرية من شأنها ضمان تميزها، وانتشارها بشكل عشوائي متسارع.
أما ميمات الإنترنت Internet Memes المنتشرة في الوقت الحالي، فما هي إلا لون ثقافي آخر انبثق من الثقافة الفرعية التي كونتها الوسائط الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعي.
وكل هذا بالتأكيد، يتم من خلال الإلحاح على تكرارها، وتطويعها لتتلاءم مع كل المناسبات، وكأنها تؤكد على وجودها كأيٍ من الجينات البشرية التي تضم في جنباتها المفهوم الدارويني «البقاء للأصلح»، وفي هذه الحالة: الجين الذي يحافظ على كيانه وتواجده لأكبر فترة ممكنة، قد يستمر إلى أبد الآبدين.
وقد أوضح دوكينز عام 2013، أن ميمات الإنترنت ما هي إلا «سطو تم فيه اختطاف الفكرة الأصلية»، لأن فكرة الميم الأصلية تخضع للتطور مثل أي جين أو كائن حي، ومنشأ ذلك التطور هو التغيير الناجم عن انتشار الثقافة الجديدة، التي أسستها تكنولوجيا الإنترنت الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعي. وما يميز ميمات الإنترنت عن الميمات التقليدية، هو مقدرتها على أن تترك أثراً وعلامة بارزة في الوسائط الإعلامية التي تضمن نشرها وانتشارها، خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث تجعل مستخدمي أي من الميمات، يتناولونها بالتحليل، وإضافة اللمسات الإبداعية لتجديدها وتطويرها.
وبالنظر لـ«الميمات» نجد أنها مجموعة من العبارات البسيطة، أو الكلمات، أو الإيماءات، أو الصور، أو هاشتاج، أو موقع، أو رابط، أو حتى كلمات خاطئة إملائياً، صيغت هكذا بشكل متعمد. أما ميمات الإنترنت فالغرض منها محاكاة موقف بطريقة هزلية مثيرة للضحك، من خلال نشر صورة معينة، أو رابط، أو مقطع فيديو، أو فيديو جرافيكي لحظي (GIF). ومن أشهر الصور التي انتشرت في الآونة الأخيرة صورة «الست أمينة وسي السيد» في الفيلم الشهير»بين القصرين»، أو صورة الفنانة عبلة كامل المأخوذة من المسلسل المعروف «لن أعيش في جلباب أبي»، والصورة ترسمها وهي تجلس واجمة ممتعضة، وترتدي جلبابا أصفر. والغريب، أن هاتين الصورتين، وغيرهما الكثير، يتم تطويعهما للتعبير عن أغلب المواقف، ولا يقتصر استخدامهما على مواقف القهر، أو الحزن، كما هو من المفترض أن يكون. وبدون شك، كانت الوسيلة الفورية، والفعالة التي أعطت تلك الميمات الفرصة للانتشار سريعاً، هي وسائل التواصل الاجتماعي، والمدونات، والبريد الإلكتروني، أو حتى مصادر الأخبار. وغالباً يتم استخدام الميمات لأغراض دعائية، أو للتسويق لمنتجات عينها، أو حتى استحداث منتجات تتوافق مع الميمات المنتشرة. فمثلاً، بالنظر إلى الوطن العربي، وبعد انتشار أغنية «ماكارينا» عام 1993، نجد أن اسم الأغنية تم إطلاقه، ليس فقط على مقاه، ومنتجات غذائية، بل أيضاً على نوع من أنواع فوانيس رمضان، أو على دمى الأطفال. ويفضل المنتجون والقائمون على التسويق الارتكاز على فكرة الميمات؛ لأنها تعمل على توفير رؤوس الأموال المستخدمة في الدعاية، وتضمن للمنتجات النجاح التسويقي الكاسح لأطول فترة ممكنة. ولكن في ما يبدو أن تلك الاستخدامات صارت تقليدية جداً، فلقد تعدى استخدام الميمات الأغراض الدعائية؛ حيث أنها صارت وسيلة للتواصل، ولغة إشارة جديدة يمكن فهمها على كل من المستوى المحلي والمستوى العالمي، وذلك حسب انتشارها. فتبزغ الميمات في وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن رأي مخالف، أو السخرية من وضع ما، أو التهكم على شخص، أو على مسؤول ما، أو حتى على مبدأ. ومن ثم أصبح يطلق عليها اسم «اللغة الدارجة المستخدمة على الانترنت» Netizen Vernacular. والأخطر من كل هذا وذاك، خروج تلك اللغة من محبسها من وراء شاشات الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، لتنفذ وتتغلغل في حياتنا اليومية لنعبر عنها سواء بإيماءات، أو عبارات باتت مفهومة بين المجتمعات، سواء المحلية أو الدولية. فعلى سبيل المثال، صورة المرأة الجميلة ذات الشفتين المكتظتين تم السخرية منها في وسائل التواصل الاجتماعي، لتعبر عنها صور إناث وذكور يمدون أفواههم للخارج بشكل هزلي، ليعبر عنها العامة خارج شاشات الكمبيوتر بعبارة «بوز البطة»، أو حتى «مد الشفاه للخارج بشكل هزلي» بدون خشية سخرية الآخرين من تلك الإيماءة، فلقد بات الجميع يعلم أنها إيماءة هزلية لإثارة الفكاهة، وليس للإغواء كما صممت أن تكون.
فيروس الميمات بعد تغلغله بشكل إبداعي في جميع مناحي الحياة اليومية والاقتصادية والسياسة، باتت له الهيمنة الشاملة.
والأطرف من ذلك، الذي يثري القاموس اللغوي لـ«اللغة الدارجة المستخدمة على الإنترنت» هو ـ على سبيل المثال – انتشار مقولة في أحد المجتمعات على شبكات التواصل الاجتماعي لتصير متداولة بشكل مكثف «Trending»، ثم في ما بعد تتحول لميمة تنتشر بين المجتمعات. فيذكر أن رجلاً وأولاده في إحدى القرى في الريف المصري، قام بتعليق لافتة لتأييد مسؤول كبير، لتوكيد عدم مخالفته للقواعد، على عكس ابنه الناشط الذي يهاجم ذلك المسؤول. فكتب على اليافطة: «عائلة الشريف تؤيد (فلان) ما عدا العاق وليد الشريف»، فعلى عكس أي توقعات، انتشرت تلك المقولة عالمياً، بعدما أفرزت حالة من التندر والسخرية، جعلت من «وليد الشريف» بطلاً على منصات التواصل، ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقط؛ حيث بدأت شعوب أخرى في التعبير عن اعتراضها على أي من الأمور، بتذييل أي مقولة بعبارة «ماعدا العاق..»، وفي هذه الحالة كانوا يذكرون أسماءهم. وعلاوة على ذلك، صارت تلك العبارة بمثابة مقولة مأثورة في الحياة اليومية، يتداولها الأفراد العاديون إما لإثارة البسمة، أو للتعبير عن الرأي بشكل ساخر. وكانت المفاجأة الضاربة، هي استخدام الميمات في المعترك السياسي البحت مؤخراً، وأبرز مثال على ذلك كانت الميمات المكثفة التي انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي إبان الحملات الانتخابية الرئاسية في البرازيل عام 2014، التي كان لها عظيم الأثر على اختيارات الناخبين، لدرجة أن الانتخابات البرازيلية وقتئذٍ أطلق عليها اسم «انتخابات الميمات». ومنذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، صارت الميمات هي اليد الطولى، والناشط النافذ التأثير في البرازيل، الذي يتواجد في أي اجتماع بين الساسة، أو احتجاج، أو تظاهرات في الشوارع، سواء مع الحكومة أو ضدها. ومن خلال تلك الميمات، استطاع الناشطون إطلاق سراح الزعماء السياسيين، واستطاعت الحركات النسوية ليس فقط التعبيرعن مطالبها، بل أيضاً الحصول عليها. وغيرها من الأمثلة اللامتناهية، التي باتت لا تقتصر على البرازيل فقط، بل انتشرت كالنار في الهشيم في كل بقعة من بقاع الأرض، بما في ذلك تغلغلها إلى عالم الأطفال، وكذلك الرسوم المتحركة التي تستهدف الأطفال.
وقد نستخلص من هذا، أن فيروس الميمات بعد تغلغله بشكل إبداعي في جميع مناحي الحياة اليومية والاقتصادية والسياسة، باتت له الهيمنة الشاملة. فلا يعرف أحد من أطلقه، لكن كل ما يترسخ في الأذهان تلك الصور، أو العبارات الطنانة التي تعظم وتتنامى مع الوقت لتتحول إلى نهج فلسفي، بل قد تصير مرشدا روحانيا لتمييز الخبيث من الطيب. وهنا، لا يكون منا إلا أن نترقب عواقب فيروس الميمات، فهل سيظل محمود العواقب كما هو حاله الآن؟ أم سيتحول إلى مرشد ضلال جديد يزج بالبشرية في غياهب التجهيل؟ وحدها الأيام هي التي سوف تكشف ذلك، فبعد إطلاق فيروس الميم، لن يستطيع مخلوق إيقافه.
٭ أكاديمية مصرية
عبارتك الأخيرة أعجبتني : { لن يستطيع مخلوق إيقافه }.فتوقفت حضرتك معها مباشرة.هذه من الميمات الجديدة.شكرا على المقال.
مقال رائع احسنتى يا دكتورة