منذ وصوله إلى قصر قرطاج، لم يخف قيس سعيّد يوما نظرته السلبية إزاء الأحزاب والبرلمان، باعتباره مركز العملية السياسية في نظام سياسي شبه برلماني، وفق ما أقره دستور 2014. وله في ذلك أسباب يعكسها الواقع الاجتماعي والاقتصادي المتردي الذي وصلت إليه البلاد، بعد 10 سنوات من عمر هذا النظام، وحكم الأحزاب والتحالفات والمصالح، وانتشار الفساد الذي أنهك الدولة، وكاد يودي بها إلى الإفلاس والدمار.
وقد شدّد الرئيس التونسي أكثر من مرة على ضرورة إدخال إصلاحات سياسية، بعدما أثبتت التجربة أن النظام الحالي، وطريقة الاقتراع المعتمدة، أدّت إلى الانقسام وتعطّل السير العادي لمؤسسات الدولة، في إشارة واضحة إلى أنّ الوضع في البلاد لا يمكن معالجته بالطرق التقليدية، بل يجب بلورة تصوّر جديد يقوم على إدخال إصلاحات سياسية جوهرية، ومن بينها القانون الانتخابي، إلى جانب بعض الأحكام الواردة في نص الدستور. من حاصل إدراك أنّه لولا الاستبداد والفساد الذي عاشته ومازالت تعيشه تونس تحت صور مختلفة، لما آل الوضع إلى ما هو عليه اليوم.
الرئيس أصبح بمثابة المنقذ من المنظومة السياسية والحزبية التي تدير شؤون البلاد منذ الثورة، وتلاحقها تهم الفساد والمصالح الفئوية الضيقة، فهؤلاء ارتكبوا جرائم اقتصادية بحق التونسيين، واستولوا على أموال الشعب، وقاموا بتهريبها إلى الخارج تحت حماية وإيعاز من أطراف سياسية تدعي محاربتها للفساد. وعلى هذا الأساس يرى سعيّد أنّه يجب التصدي للأسباب التي أدت إلى تأزم الوضع، بعد عشرات السنين من التنكيل بالشعب وسرقة ثرواته، ومن النصوص التي وُضِعت، ولا أثر لها إطلاقا إلا في حدود المطبعة الرسمية، معلّناً أن هناك إجراءات احترازية في انتظار الفاسدين، وأن القانون سيطبق على الجميع على قدم المساواة. وضمن سياسة الانحناء للعاصفة لغاية تجاوزها، خفّف حزب النهضة الإسلامي من حدة خطابه تجاه رئيس الجمهورية، وأقر بضرورة القيام بمراجعات لسياسة الحزب المنتهجة في السنوات الأخيرة، وتحمّل مسؤوليته واستعداده للاعتذار عن الأخطاء المرتكبة، وقرار حل المكتب التنفيذي للحركة من قبل رئيسها راشد الغنوشي هي أولى الخطوات في ما يبدو لحزب تخضع بنيته السياسية لقرار شخص واحد، رغم وجود هياكل الشورى والمكاتب التنفيذية.
ولكنّ المؤكد أن كل ما تقوم به الأحزاب التي ساهمت في تأزيم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلاد لم يعد يهم التونسيين في شيء. فقد ذاقوا الويلات طيلة 10 سنوات من حُكم مَن تعاملوا مع الشعب بمنطق التجاهل، وتعاملوا مع الدولة بعقلية الابتزاز، والغنيمة والتحطيم. وخطوات الحركة كانت متوقعة، بالنظر إلى سياسة المناورة، وإظهار الليونة كي لا تغرق سفينتها. وقد سبق لها أن اضطرّت سنة 2013 إلى الخروج من الحكم، والمشاركة في حوار وطني انتهى آنذاك بتشكيل حكومة تكنوقراط، إثر أزمة سياسية حادة أجّجتها اغتيالات سياسية. ولكن هاجس البقاء في السلطة دفعها سنة 2014 إلى تشكيل ائتلاف هجين مع حزب نداء تونس الليبرالي العلماني، وتقربت من رئيسه الراحل الباجي قائد السبسي، وتصالحت مع منظومة التجمع التي ثار ضدها التونسيون. وفي انتخابات 2019، تحالفت مع حزب قلب تونس، الذي يلاحق رئيسه نبيل القروي، بتهم فساد وتبييض أموال. وعملت على إسقاط الحكومات التي لا تتناسب مع منطق المحاصصة، وهاجس الغنيمة. واليوم، حزب النهضة برئاسة الغنوشي يجد نفسه أمام امتحان جديد من أجل ضمان استمراريته في المشهد السياسي في البلاد. فالأزمة الداخلية التي يمر بها الحزب، والتي نتجت عنها استقالة قيادات مؤسسة من الحركة رافضة بقاء الغنوشي المتقدم في السنّ على رأس الحزب منذ 40 عاما، تفاقمت مع إعلان الرئيس قيس سعيد قراراته الاستثنائية، وقد برز الخلاف الداخلي في الحزب إلى العلن مرة أخرى، وتجلى في استقالات جديدة، ومواقف رافضة لخيارات الحزب السياسية. وفي الأثناء، جددت قيادات بارزة في هذا الحزب مطالبتها بإقالة الغنوشي، وتحمّل النهضة مسؤوليتها عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في البلاد، والاعتذار للشعب عما سمّوه الأخطاء التي ارتكبت. وتصريح نائب رئيس الحزب علي العريض، كشف ذلك بوضوح عندما أكّد أن «حزب النهضة يتحمل القسط الأكبر من المسؤولية عن الفشل الحاصل في تونس. وتمسكه بالحكم وإبرامه تحالفات سياسية بأي ثمن، كان لهما الأثر السلبي في الوضع السياسي للنهضة، وفي تونس. وكان بإمكان الحزب أن يلعب دور المعارضة في مواجهة أطراف الحكم، ويكون دوره من هذا الموقع أكثر فائدة له، ولتونس» .
على الجميع إدراك أن الفرصة متاحة للانتقال من طور الأزمة إلى مرحلة استقرار الدولة وتثبيت مؤسّساتها على قاعدة القانون والشفافية
هامش المناورة لمن أراد أن يعبث بالعملية السياسية قد تقلّص، والجميع استوعب الدرس، وتراجع عن خطاب البدايات، وسلسلة بيانات حركة النهضة تكشف ذلك بوضوح. ومن الجيّد أن يدرك الجميع أنّ الفرصة متاحة للانتقال من طور الأزمة إلى مرحلة استقرار الدولة وتثبيت مؤسّساتها على قاعدة القانون والشفافية. ولا شكّ في أنّ الرئيس سيمضي نحو حكومة إنجاز اقتصادي واجتماعي حقيقية، عناوينها الرئيسية مواصلة الحرب على الفساد التي بدأها، وكنس الفاسدين وإصلاح منظومة الحوكمة، ومراجعة السياسات العامّة، وتكريس دولة العدالة الاجتماعية، وليس دولة اللوبيات والتمكين. وإذا كانت الطبقة السياسية في مستوى الرهانات، وعلى وعي بحجم التحدّيات التي تتطلّبها المرحلة، فعليها أن تصحو من غفوتها وتَعْدِل عن فساد تدبيرها، وتتحلّى بالمسؤولية الوطنية والإخلاص للأمانة. وعلى الصادقين منها أن يكونوا جزءا من عملية الإصلاح الوطني بعيدا عن منطق الغرور والأحادية ومركّب المنفعة الفئوية. فلا ضمانة لاستمرار التموقع، وتكريس ثقافة الغنيمة السياسية، التي بسببها نسي هؤلاء أن الحركات الاجتماعية هي النواة الصلبة للثورة التونسية، وقد اندلعت ضد اليأس واللامبالاة السياسية، ونهج التحقير والتهميش التنموي. والدوافع ذاتها تراكمت عقدا من الزمن، وهي جوهر الحراك الذي اندفع يوم 25 يوليو بغضب مضاعف، لم تعد تجدي معه سياسة المغالطة، وسرديات الحوار والتمويه، والوعود الكاذبة.
النظام شبه البرلماني في تونس، اتضحت عيوبه، وفي مقدمتها إسهامه المحوري في انعدام الاستقرار السياسي، والمتاهات السياسية التي عرفتها البلاد تعود في معظمها إلى مثل هذا النوع من الأنظمة السياسية، وقد أصبح بحاجة ملحّة إلى مراجعة وتعديل بمثل ما يحتاجه القانون الانتخابي. ومن المؤكد أنّ كل الاحتمالات واردة فيما يخص هذا الشأن. ولا عودة إلى زمن الخيبات والفشل. ولا تراجع عن الحقوق والحريات، ولا مجال للمساس بها أو الاعتداء عليها. وقيس سعيد اختار أن يقف في صف الشعب التونسي، وأن يمضي إلى الأمام للحفاظ على وحدة الدولة، وحمايتها من الفساد الذي نخر مفاصلها. وتونس جديدة ومغايرة، وفي مستوى آمال الشعب ممكنة، ما دام هناك الصادقون والأحرار، وبتوفّر الإرادة السياسية والقرار الشجاع، والمخلص للأمانة. وقديما قال أبو العلاء المعري «الأرض للطوفان مشتاقة لعلّها من درن تُغسل «.
كاتب تونسي
الله الله يا سلام يا سلام …..و أخيرا أقرأ مقال لرجل ” حكيم ” يقرأ في الشأن التونسي بعلم و موضوعية ….يا ليت يقرأه الأغلبية الساحقة من المتحاملين على الرئيس سعيد بدون علم ….
شكرا أخي إبن آكسيل. إيقاف مسار الفساد والعبث بالدولة ومؤسساتها أولوية وطنية تعلو على كل شيء. والدستور أرسى نظاما يصعب الخروج منه، وفي مرحلة الانسداد يصبح انقاذ البلد والمحافظة على السلم الاجتماعي أهم من نصوص نعبدها، ولا تطبق على أرض الواقع. والمظلومية والبكائيات لا معنى لها لمن لم يتورط في الفساد، ويرغب في حياة سياسية سليمة ونظيفة. والتعايش خارج السياسة الملوثة والمال السياسي الفاسد، والاعلام الموجه والطرق غير المشروعة، يقبله كل شخص غيور على المصلحة الوطنية. و لا بديل عن محاربة الفساد واصلاح منظومة الحياة السياسية وانقاذ البلاد من الفوضى. فالإصلاح بالمعنى الجوهري لا يكمن في التحوّل من نظام سلطوي إلى جماعات مصالح ولوبيات فساد وتمكين كما هو الحال منذ 10 سنوات، بل إلى نظام ديمقراطي حقيقي، ظاهره كباطنه، لا يسمح باستفحال الفساد وتحالف جماعاته، والتعسّف على الوطن والشعب.
دام حضورك وشرفتنا ملاحظاتك
شكرًا أخي لطفي العبيدي. برأيي هناك مشكلة مهمة مع الرئيس قيس سعيد وهو عدم وضوح الرؤيا والإرادة السياسية التي يبتغيها. والمقال لم بقدم شيئًا يذكر حول هذه النقطة واكتفى بخلاصة هي أقرب إلى الشعارات المعروفة جيدًا حول صف الشعب وكأنما الأخرين هم أعداء الشعب! لابديل عن التعددية السياسية وحصر الأمور بيد شخص واحد لن يحل المشاكل, على المدى الطويل حتى وإن بدت الأمور جيدة على المدى القصير. فأين هي إسراتيجية قيس سعيد؟
أنت محق أخي أسامة. ولكن الحمل ثقيل والتسرع أمر غير محمود في دولة أنهكها الفساد لسنوات طويلة وتعمم منذ 2011. إيقاف مسار الفساد والعبث بالدولة ومؤسساتها أولوية وطنية تعلو على كل شيء كمرحلة أولى ستتبعها خطوات واضحة هذا مؤكد.والتعايش خارج السياسة الملوثة والمال السياسي الفاسد، والاعلام الموجه والطرق غير المشروعة، يقبله كل شخص غيور على المصلحة الوطنية. ولا خوف على الديمقراطية والحريات السياسية والمدنية في تونس، وقيس سعيد دفعته الضرورة وخطر تهاوي الدولة ومؤسساتها لاتخاذ تدابير استثنائية وقتية بطبيعة الحال، تحتاجها البلاد لإنقاذ ما يمكن انقاذه، وتصويب الاعوجاج السياسي الذي أضر بالاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية. وتونس ستعود أكثر صفاء وديمقراطية. والعملية الانتخابية ستستمر، والمؤسسات التي تعبّر حقيقة عن مصالح الشعب ستأتي دون شك، ولكن أكثر صدقا وأخلاقية سياسية.
شكرا أسامة ودام حضورك. شرفتنا
ولك جزيل الشكر أخي لطفي العبيدي. لاشك أننا نتمنى النجاح لتونس في بناء الدولة الحديثة، فهي منارة للربيع العربي الذي مازلنا نتمسك به رغم كل هذه المصاعب، وسنبقى نتمسك به فلايوجد طريق أخر أفضل! وقيس سعيد يجب أن لايخزلنا.