فاز المنتخب الإسباني بكأس العالم لكرة القدم للسيدات، الذي انتهت منافساته في أستراليا ونيوزيلندا في العشرين من شهر آب/أغسطس 2023، بعد مباريات عديدة، أجمع المتابعون والمختصون على مستواها البدني والتكتيكي العالي، ما يشير إلى تطور رياضة كرة القدم النسائية بشكل كبير، لدرجة أنها لم تعد تقلّ، من ناحية المتعة والإثارة، عن كرة القدم الرجالية، الرياضة الشعبية الأولى في العالم. رغم ذلك، لم تشهد إسبانيا أي احتفالات، يمكن مقارنتها من قريب أو بعيد، باحتفالات عام 2010، عندما فاز منتخب الرجال بكأس العالم؛ فيما أثير من جديد موضوع فجوة الأجور، بين اللاعبين الذكور والإناث، إذ تنال اللاعبة الأنثى وسطياً 25 سنتاً، مقابل كل دولار يناله اللاعب الذكر، الأمر الذي يُفسّر عادة بالفرق في نسب المشاهدة بين نوعي المنافسات. عربياً، لم يثر الإنجاز، الذي حققه المنتخب المغربي للسيدات، بوصوله للدور الثاني من البطولة، كثيراً من الانتباه، على خلاف إنجاز منتخب الرجال في كأس العالم الأخير، فضلاً عن مئات التعليقات المسيئة، حول اللاعبات وأشكالهن وأخلاقهن، التي امتلأت بها مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض وسائل الإعلام.
رغم هذا كانت أرقام البطولة النسائية الأخيرة أفضل بشكل ملحوظ من النسخة السابقة لها عام 2019 في فرنسا، على مستوى المشاهدات والاهتمام والأرباح والجوائز المالية، ما يعطي بعض الأمل بتقليص الفوارق بين الرجال والنساء، في واحدة من أهم معاقل الذكورية، أي كرة القدم، وهو أمر يستلزم مزيداً من الاستثمار في الرياضة النسائية، من قبل الحكومات والأندية الرياضية الكبرى، لكي تصبح «جماهيرية» بكل معنى الكلمة، إلا أن هذا قد يثير عدداً من الأسئلة الصعبة: هل يمكن أن يغامر المستثمرون، على مستوى العالم، بالدخول بمضاربات مالية هائلة في الرياضة النسائية؟ وهل يمكن لهذه الرياضة أن تصير جانباً من اقتصاد الفقاعات الكبرى، الذي يشكّل العمود الفقري لكرة القدم الرجالية المعاصرة؟
يمكن لهذين السؤالين أن يساهما في إخراج الجدل عن مكانة الرياضية النسائية من خانة الحديث التقليدي عن الانحيازات الذكورية المترسّخة، التي تجعل عالمنا ظالماً للنساء. هنالك شروط أكثر «مادية» وصعوبة من تغيير ما في سريرة البشر، كي تصبح جماهيرية كرة قدم السيدات قريبة من نظيرتها الرجالية، فهل يمكن فعلاً تحقيق هذه الشروط؟ وما المانع من إنفاق الأموال لتمكين النساء، وجعل رياضتهن محطّ أنظار الجميع حول العالم؟
سيسيولوجيا الجاذبية
يصعب حصر العوامل، التي تجعل كرة قدم الرجال جذّابة للدرجة التي نعرفها، هنالك جمالية وإثارة اللعبة نفسها؛ وكذلك ارتباطها بالتشكيلات الاجتماعية المختلفة في مدن العالم، إذ تعبّر عن هويات مناطقية وطبقية ووطنية وثقافية، بكل ما تحمله من مجالات الحميمية والحماسة، أبوية الطابع؛ ثم جاء الاستثمار الهائل في الأندية والسلع الرياضية، ليجعل كرة القدم مُنتجاً قابلاً للوصول إلى فئات أشدّ تنوّعاً، وليكسبها طابعاً أكثر «عائلية» في حين لا تبدو كرة القدم النسائية قادرة على تحقيق جاذبية مماثلة، لا من جهة اختراق الهويات الأبوية، ولا من جهة الاستثمارات. الرياضات النسائية الأكثر شعبية، مثل التنس، الذي لا تقلّ شهرة لاعباته الإناث عن لاعبيه الذكور؛ وكرة الطائرة الشاطئية، تبني جاذبيتها على عوامل أخرى، منها تطابقها مع تصورات جندرية معيّنة عن النساء، مثل اللطف والأناقة البورجوازيين، والإثارة الجنسية الأنثوية. كثيرات من لاعبات التنس وكرة الطائرة شاركن في نشاطات تُحسب على النسوية، إلا أنهن كن دوماً مضطرات للعمل ضمن الإطار والشكل، اللذين تفرضهما ألعابهن.
في هذا الشرط، لا يوجد أمل فعلي لاستثمارات أكبر في كرة القدم النسائية، إلا بالضغط من خلال القيم النسوية، التي تلقى ترحيباً رسمياً لفظياً في كثير من البلدان، لتطوير صناعة اقتصادية/أيديولوجية، تروّج لنفسها بوصفها علامة على عالم ومجتمع جديدين، تماماً كما هو الحال في صناعة السينما والترفيه الأمريكية المعاصرة، إلا أن هذا لا يحدث إلا بشكل محدود حتى الآن، ربما لأن الرياضة، بوصفها فرجة، ما تزال مرتبطة بقيم أبوية، لدى مشاهديها الرجال والنساء، مثل الخشونة، والتنافس القاسي، وجلب المجد للجماعة، أي أن الأفكار المتعلّقة بها ما تزال «حربية» أو شبه عسكرية إلى حد كبير؛ أما بوصفها ممارسة اجتماعية، فما زالت الرياضة مرتبطة إلى حد ما بآليات بناء الجماعة التقليدية، في حين يمارس الأفراد، المتمسّكون بفردانيتهم، رياضات أميل لتكريس العزلة، مثل التمارين في الصالات الرياضية المغلقة (الجيم).
تحتاج التيارات المعاصرة، الموصوفة بـ»النسوية» إلى تحقيق تغيير اجتماعي جدّي إذن، لتبديل «الصور النمطية» عن رياضات الإناث، ومن ذلك التغيير إحداث تحوّل في قيم الرياضة نفسها، لتصبح أكثر اتفاقاً مع قيم تلك التيارات؛ وأساساً إجراء انقلاب جذري في آليات بناء الهويات الجمعيّة، لتصير أبعد عن الأبوية والذكورية، وذلك يعني أن المسألة تتطلّب ما هو أكثر من مجرد لوم المجتمع على تقصيره في تشجيع بطلات اللعبة؛ ومحاولات الضغط الإعلامي، فالارتباط بـ»فريق» لا يشبه كثيراً انتقاء فيلم أو أغنية، على منصّة افتراضية، أو حتى في صالة عرض أو احتفال، ولا يقوم على ميول واختيارات أفراد معزولين، بقدر ما هو «تراث» راسخ في العالم الاجتماعي للبشر، بكل ما يرتبط بهذا التراث من ذاكرة، ومشاعر انتماء، وتعلّق بأحداث معيّنة.
لا يبدو عدد كبير من التيارات النسوية المعاصرة قادراً، أو حتى راغباً، بالعمل على تحقيق ذلك التغيير الاجتماعي، إضافة إلى أنه من غير الشائع أن يطرح على نفسه أسئلة من نوع: هل من مصلحة الرياضيات الجماعية النسائية أن تتماثل مع الوضع الاستثماري الحالي لرياضات الذكور؟ وهل يمكن اعتباره هذا الوضع مثالاً اجتماعياً يُحتذى به؟ وما تأثيرات كل ذلك على القيم الأساسية للمساواة، التي طالبت بها النسوية تاريخياً؟
أحلام النجومية
تمثّل فرصة الاحتراف، في نادٍ كروي شهير، حلماً لكثير من الأطفال والمراهقين الذكور، خاصة من الطبقات الاجتماعية الأدنى، وهو بالتأكيد «خلاص» يصعب على أغلب الناس تحقيقه، ويعرّض عدداً كبيراً من القاصرين لضغط شديد، بدني ونفسي، ينتهي، في كثير من الأحيان، بخيبة الأمل والاكتئاب. يومياً، يكتشف كثير من أبناء الأحياء «المهمّشة» في الغرب، والدول الافريقية واللاتينية الأفقر، أنهم لن يصبحوا ميسّي أو بنزيما. فضلاً عن هذا فإن التنافس القاسي جداً، بين آلاف اللاعبين في الأندية الأقل شهرة، لا يكون على نتائج المباريات فحسب، بل على اقتناص الفرص، للاستمرار في العمل أساساً، حتى في حالات الإصابة، والإجهاد العصبي والحيوي المفرط.
لا يبدو هذا النموذج، رغم أنه مستبعد التطبيق في كرة القدم النسائية، أفضل أسلوب لـ»تمكين النساء» إذ أنه قد يعرّض كثيراً من فتيات الطبقات الأدنى لاستغلال شديد. والمحصلة لن تكون أكثر من بروز أسماء قليلة لنجمات شهيرات، يمكن أن يصبحن نموذجاً للتحرر والكسب المالي، لكن مع تجاهل حال آلاف النساء الأخريات في صناعة اللعبة. سابقاً كانت كرة القدم «أرحم» لعشاقها، والراغبين في احترافها، وربما يجب التفكير في استعادة الرحمة، حتى لو على حساب الإبهار والأرقام، بدلاً من السعي لمماثلة رياضات الإناث، بالصناعة المعاصرة لرياضات الذكور الجماهيرية.
اللعب الاجتماعي
إضافة لارتباط الرياضات الجماعية بالهويات العامة، كانت دائماً مجالاً للقاء والتواصل واللعب الاجتماعي. أحبّ الناس أنديتهم ومنتخباتهم، ليس فقط لأنها تحقق لهم الإنجازات والنتائج المبهرة، بل أساساً لأنها كانت تجمعهم، وتمنحهم فضاءات، كثيراً ما تقوم على المحبّة والتضامن. عندما تم ربط اللعب الاجتماعي بمعايير الزمن/الإنجاز، أي تحقيق أفضل النتائج تحت الضغط، فقدت التجمّعات الرياضية كثيراً من حميميتها، وتحوّلت «نوادي الشعب» إلى مؤسسات استثمارية، تخسر بالتدريج ارتباطها بمحيطها الثقافي والاجتماعي. ربما يكون أفضل ما يمكن للرياضة النسائية فعله، في سبيل التحرر والمساواة، هو محاولة إعادة إنتاج تلك الفضاءات الحميمة للعب، وليس الجري، غير الإنساني وغير الاجتماعي، وراء الشهرة والإنجاز وتحقيق الربح المادي. وعندها قد تكون كرة قدم نسائية مزدهرة، فرصة لصياغة أنماط جديدة من الهوية الجمعية، وخلق «روح فريق» مختلفة نوعياً؛ ويصبح من الأجدى أن يسترجع الذكور قيم رياضتهم الأولى، بدلاً من الاستلاب الشامل بأساطير إعلامية، قد تكون مُنتجة لكثير من الصور والأرقام، لكن مفتقرة تماماً للمعنى الاجتماعي.
يبقى هذا الطموح في الإطار النظري، إذ أن عملية اجتثاث الحركة واللعب من فضاءاتهما الجمعيّة مستمرة ومتصاعدة حول العالم، ويتأثّر بها الذكور والإناث معا، ورغم هذا يظلّ من الصعب ابتلاع الحديث عن «مساواة في المكآفات المالية للنجوم» بوصفه المطلب النسوي الأساسي في مجال الرياضة، وربما في أي مجال آخر.
كاتب سوري