كأني صرت على وشك الاقتناع بأن أتخلّى عن مكتبتي، حجج كثيرة لجأ إليها الأصدقاء تسلحّهم بفكرة أن المستقبل مؤيّد لوجهة نظرهم، وإنني سأرضخ، غصبا عني، للتخلّي عن المكتبة والكتب. أقوى هذه الحجج ما قاله أحدهم مرّة، إن الكومبيوتر أو أشباهه يتيحون له القراءة، بعد إطفاء ضوء الغرفة. أما أكثر هذه الحجج فتتمثل في أنني أستطيع عبر الكومبيوتر أن أقرأ كتبا لا أستطيع شراءها من المكتبة. وأنا في السهرات أروح أزكيّ ما يقولونه بأن أشكو لكون الكتب التي تطبع في مصر مثلا، أو في المغرب، لا تصل إلى هنا.
هذه تستطيع «تنزيلها» على كومبيوترك الشخصي، أو على تلفونك، يقول الأصدقاء. وأنا سبق لي أن قرأت كتباً، ليست كثيرة، على الكومبيوتر ولم أكم مرتاحا. أولا لأني أجد ذاك الجهاز ثقيلا في ما أقلّب أوضاعي متمددا أو مستلقيا، أثناء القراءة، ثم إنني لم أعرف بعد كيف أفعل بقلم الرصاص الذي اعتدت حمله لأسطّر ما يعجبني من الكتاب. وهذه أيضا لها حلّ، حسبما يجيب هؤلاء الأصدقاء، مضيفين إليها أن هناك أشياء في القراءة على الكومبيوتر لا يستطيع الكتاب مجاراتها.
إذن، مع توالي جلساتنا صرت قريبا من أن أقتنع. هكذا حصل لي من سنوات حين راح زملاء العمل في الصحيفة يوهمونني بأني بت الوحيد في العالم الذي يكتب بالقلم. ثم أقرّت الصحيفة ذلك بحسمٍ حين أعلنت لجهاز العاملين كله، أن تسليم المقالات على الورق صار ممنوعا منعا باتّا. والصحيفة، لتقرن القول بالفعل ألغت قسم الطباعة وصرفت موظّفيه.
وهكذا أسرعت في الانتقال إلى الكومبيوتر، اضطرارا وجبناً. وكانت قد مضت سنوات على هجراني الورقة والقلم، حين قرأت أن اثنين من كبار روائيي العالم هما بول أوستر وسلمان رشدي، رفضا العمل بما نُصحا به، لا بدّ، مرارا وتكرارا. وهناك آخرون لا بدّ رفضوا التخلّي عن طريقتهم القديمة في الكتابة. ولا بدّ أن من سبقوا هؤلاء، في أيام التحوّل من الريشة أو القلم، كابدوا هذا الانتقال على قلّة شأنه. بل إن بعضهم، مثل جان جينيه الذي لم يدرك زمان الكتابة بالريشة، أخذه الحنين إليها فقال إن الكتابة فقدت متعتها وأبهتها بعد زوالها وزوال محبرتها معها.
وها إنني، مثل جينيه، أجدني مبقيا على تجريب أقلامي القديمة، إن كانت ما تزال تعمل. هي كثيرة عندي، ومتدرجة من البيك إلى الفوتر إلى قلم الحبر «باركر» أو «شيفرز» أو سواهما. هذه أيضا جفّ حبرها ولم أعد أجدّد خرطوشته لعلمي أني لن أعود إليها أبدا. صارت زينة باقية من الماضي، مثلها مثل أزرار أكمام القميص المعدنية، ومثل الدبابيس التي كانت تضاف، تلك التي لا عمل لها إلا تذكيري بأني وقتها كنت هناك، آن كان آخرون يستعملون هذه الأشياء ليتزيّنوا بها.
أما الآن فإن أصدقائي يدفعوننا دفعا إلى أن أستغني عن الكتب، كل الكتب، مثلما استغنيت عن الأقلام. ها هي الآن أمامي وحولي، وأنا أضرب أزرار الكومبيوتر، طافحة فوق رفوفها وخارجة من خزائنها. «المكتبة كلها يا حازم؟ كلّها يا فؤاد؟». وهما يقصدانها كلها والحجة في ذلك أنها صارت لا لزوم لها. وللصراحة كنت أنا قد توصّلت إلى ذلك من غوغل الذي فاجأني، وما يزال يفاجئني كيف أنني أطبع بادئا بشطر من أحد أبيات المتنبي أو أبو نواس أو الجاحظ فيأتي بالقصيدة كلها أو بالنص كلّه، المتنبي الذي يتربّع ديوانه ذو الأجزاء الأربعة في أعلى رفوف المكتبة باتت تدار قصائده بالأزرار.
المكتبة كلها إذن؟!
كاتب لبناني