تتعرض دول آسيا الوسطى، وخصوصاً كازاخستان، لضغوط أمريكية من أجل النأي بنفسها عن روسيا والامتثال الكامل بالعقوبات الغربية. ومع ذلك، فإنّ مثل هذه الضغوط قد تأتي بنتائج عكسية، فتدفع أستانا إلى التقارب مع روسيا والصين، وذلك نتيجة عدم احترام الولايات المتحدة المصالح الوطنية لكازاخستان، ودول آسيا الوسطى. تنظر الدول الغربية إلى كازاخستان باعتبارها شريكاً استراتيجياً مهماً في منطقة آسيا الوسطى، بينما تأمل أستانا إقامة علاقات أفضل مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وكذلك التفاعل مع جميع الدول الكبرى من دون استثناء، لكن الحرب الروسية الأوكرانية أخضعت منطقة آسيا الوسطى لـ»اختبار قاسٍ»، اسمه: «العقوبات الغربية ضد روسيا».
منذ بداية الحرب في 24 فبراير/شباط 2022 وحتى يومنا هذا، التزمت أستانا بسياسة العقوبات التي ينتهجها الغرب على أساس «المصالح الوطنية». أثرت العقوبات، بشكل مباشر وغير مباشر، على جميع شركاء روسيا، وحتى الدول الغربية نفسها. ومع تطور الأزمة وتصاعد مستوى المواجهة بين روسيا من جهة، وأوكرانيا المدعومة من الغرب من جهة أخرى، أدركت الدول الغربية أهمية آسيا الوسطى، وبدأت تنظر إلى دول المنطقة بشكل مختلف، خصوصاً في مجال «ضمان أمن الطاقة العالمي».
يتفق عدد من المحللين السياسيين والاقتصاديين على أنّ الضغوط المفرطة التي تمارسها واشنطن على كازاخستان، يمكن أن تؤدي في النهاية إلى انجراف أستانا نحو روسيا الاتحادية والصين
استمرار الحرب لأكثر من عامين، دفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلى الاهتمام أكثر بدول آسيا الوسطى، والتعاون معها وفق نهج «التنويع الاقتصادي»، الذي تتبناه كل من واشنطن وبروكسل باعتباره «أداة جيوسياسية»، يمكن أن تحقق هدف إبعاد دول آسيا الوسطى عن روسيا.
من أجل تجنب العقوبات الغربية، حاولت دول آسيا الوسطى اتخاذ الاحتياطات اللازمة من خلال البحث عن «قنوات بديلة» من شأنها أن تدفع إلى مشاركتها في الاقتصاد العالمي، من دون أيّ عواقب. وهذا ما فرض عليها، مثل كل دول العالم، ان تبقى «أسيرة» المواجهة الطويلة بين الدول الغربية وروسيا. هذه المواجهة والعقوبات الناتجة عنها أجبرت أستانا وبقية دول آسيا الوسطى، على إجراء تعديلات متواصلة، من أجل استمرار التعاون الاقتصادي بما تسمح به الظروف والعقوبات مع الاتحاد الروسي، لكن على الرغم من ذلك، بدأت كازاخستان، مؤخراً، تنظر إلى هذا الواقع من زاوية مختلفة. إذ تعتقد أستانا الآن أنّ الأمر بات يتطلب بذل المزيد من الجهود من أجل تطوير موقف إقليمي موحد لدول آسيا الوسطى، يعبّر عن استقلالها الاستراتيجي. في نظرة أستانا وأصدقائها في آسيا الوسطى، فإن اتخاذ موقف مغاير لواقع الحال بمنزلة «ضرورة» وذلك لسببين:
– الحد من تداعيات سياسة العقوبات التي تنتهجها واشنطن.
– من أجل تشكيل ما يسمى «الاستقلال الاستراتيجي» عن الاتحاد الروسي.
تحاول أستانا أن تقدّم هذا الاستقلال للأصدقاء والأعداء على السواء، بينما جوهره يقوم على فكرة «البحث عن المصالح الوطنية»، بعيداً عن أيّ اعتبارات تتعلق بالصراعات في العالم والتحالفات الدولية، لأن استمرار العقوبات وتسريعها على روسيا أرهق السلطات الكازاخستانية، وكان يجبرها في كل مرة على اتخاذ إجراءات إدارية وقانونية سريعة من أجل الردّ على التهديدات الناشئة عن العقوبات ذات الطابع السياسي والاقتصادي. حاولت أستانا ونظراؤها في آسيا الوسطى تحويل النموذج الحالي للعلاقات، إلى ما يشبه «التحالف السياسي» مع لاعبين جيوسياسيين مثل، الولايات المتحدة والصين وغيرهما. لكن هذا الواقع اليوم قد يتغيّر. تعتبر السلطات الكازاخستانية هذا الواقع جانباً إشكاليا يؤثر على جوهر علاقاتها مع الولايات المتحدة، فترى أوساط قيادية في كازاخستان أن «الضغوط الدبلوماسية المستمرة»، التي يمارسها الجانب الأمريكي على كازاخستان من أجل إشراكها في احتواء روسيا الاتحادية في المنطقة وفي العالم في إطار «خطة شاملة» هو جوهر المعضلة. علاوة على ذلك، فإنّ الضغوط التي تمارسها واشنطن على أستانا، لا تأخذ في الاعتبار الجوانب الوطنية، أو العلاقات الاقتصادية والثقافية مع روسيا الاتحادية… فتنسى واشنطن أنّ موسكو هي أحد شركاء أستانا الأساسيين، التي يصعب التخلي عنها بهذه السرعة وفي وقت قياسي.
وعليه، يتفق عدد من المحللين السياسيين والاقتصاديين على أنّ الضغوط المفرطة التي تمارسها واشنطن على كازاخستان، يمكن أن تؤدي في النهاية إلى انجراف أستانا نحو روسيا الاتحادية والصين. وبالتالي فإنّ كل الجهود التي تُعدّها أستانا لنجاح «الاستقلال الاستراتيجي» الذي تخطط له، وتسعى من أجله بهدوء، سوف تضيف بسبب التسرع الأمريكي.
كاتب لبناني