من الأسئلة التي طرحت في احتفالية لإطلاق كتاب جديد لي في الكويت، سؤال استعارة المكان، أي إمكانية أن يكتب أحدهم رواية كاملة عن مكان لم يره من قبل ولم يعش فيه، ولا يحس القارئ بأي فرق، كما لو أن كاتب الرواية ولد وتربى في ذلك المكان؟
هذا السؤال من تلك الأسئلة المهمة التي أترقب ظهورها دائما، في أي حوار أجريه، أو جلسة نقاشية أشارك فيها، ولكن لا تظهر في العادة إلا نادرا، بعكس أسئلة أخرى، أعتبرها مزعجة أكثر من كونها أسئلة ملحة تبحث عن إجابات معقولة، مثل سؤال الكتابة الأزلي: لماذا نكتب؟ وسؤال علاقة المهنة بالكتابة: لماذا يكتب الطبيب روايات؟
لقد ذكرت مرة أن من شروط الكتابة الجيدة في رأيي، أن تخبر المكان جيدا قبل الكتابة عنه، ترى الشوارع والمباني والأسواق، وتتابع بعينيك حركة الناس في أماكن الضجة والسكون، تأكل في مطاعم، وتدخل دور سينما وعبادة، وتتحاور مع شخوص افتراضيين قد لا يدخلون نصك، لكن يثرونه بروح المكان، وهنا لا بد من الإشارة لمشاريع روائية عربية، أنجحها هذا السعي، وربما ما كانت ستنجح لولا اجتهاد كتابها في رسم مكان لم يسمعوا عنه عرضا، ولا قرأوا عنه في الكتب والإنترنت، وإنما عاشوا فيه وقتا كان كافيا للإلمام بكثير من خصائصه، وبالتالي كتابة نصوص ناجحة.
والذي يقرأ رواية «كتيبة سوداء» للزميل محمد المنسي قنديل، التي كتب فيها عن كتيبة عربية حاربت في المكسيك في زمن بعيد، يدرك أنه عرف ذلك المكان الذي جرت فيه أحداث روايته، وهذا صحيح، فقد زار أماكن القتال القديم، والمقبرة التي دفن فيها المحاربون. أيضا من عظمة رواية «ساق البامبو» التي بطلها فلبيني- عربي، أن سعود السنعوسي، زار الفلبين وتحسس خطى بطله هناك، قبل أن يكتب روايته الخالدة. ولو أردنا الحديث عن مشاريع عالمية، لعثرنا على كثير منها، مثل مشاريع لكتاب عرب، عاشوا في أوروبا وكتبوا عن البلاد التي يعيشون فيها، وبلغتها. وكتاب لاتينيين، أيضا كتبوا عن بلاد أوروبية، وأوربيين كتبوا عن الشرق، وغالبا بعد زيارات متكررة لأماكن، ربما كان الوجود فيها قصديا من أجل صناعة نصوص عنها، أو مصادفة، حين يأتي الكاتب في رحلة سياحية، وتنتهي تلك السياحة بنص عن المكان، الذي تمت زيارته.
وأظن أن رواية «الوله التركي» للكاتب الإسباني أنطونيو غالا من الروايات المهمة التي وظفت إسطنبول المدينة، والروح بطريقة جيدة. ومن متابعة الوقائع وحركة الشخوص يدرك القارئ بسهولة، أن الكاتب كان هنا ذات يوم، في فوج سياحي، زار معه المساجد الضخمة، والبازارات الغريبة، والمطاعم التي تقدم الوجبات الشرقية، ووقف طويلا ليتأمل الغروب عند مضيق البسفور.
هناك سحر متفرد في رؤية العين، وسحر آخر في وقع الخطوات وهي تقترف المشي في الأماكن، وهكذا، هذه الروح ربما لا تكون عاملا مؤثرا كبيرا لدى القارئ الذي يتابع النص.
ما ذكرته، يتحدث عن حيوية النصوص التي كتبت بعد زيارة الكتاب لأماكن معينة، لكن ما زال السؤال معلقا: إذا لم يزر أحد مكان، وأراد الكتابة عنه، هل هذا ممكن؟
بالتأكيد، وفي زمن الإنترنت التي لم تعد توجد معها مسافات ولا أسرار ولا دروب مدفونة، يمكن البحث بجدية، من داخل مكتب مغلق، أو مقهى، أو ممر ضيق، أو حتى أثناء التوقف في إشارات المرور، وأنت تقود سيارة، عبر الهاتف الذكي، نعم يمكن العثور عن أي معلومة يراد البحث عنها، وإحضارها خاضعة لتوظف أو لا توظف في نص روائي، يمكن أن نأتي بالماضي والحاضر، والمستقبل الذي يصاغ عبر التكنولوجيا وكتابة كل شيء، وبالتالي تنتفي حاجة السفر إلى كولمبو، لنكتب مثلا قصة «بيريرا السريلانكي»، الذي عمل سائقا في الخليج العربي وعاد إلى بلاده، ليبدأ حياة معوجة، أو العكس حين يأتي من هناك، ليعيش وقائع غريبة في الخليج، فكلومبو وغيرها من المدن والأرياف في تلك البلاد، يمكن الحصول عليها، وربما بمعلومات أكثر مما لو أن الإنسان عاش فيها، أيضا تنتفي الحاجة للجلوس على مقهى في شارع إدجوار الشهير في لندن، لكتابة نص عن العرب الذين يطرقون ذلك الشارع كثيرا، فشارع إدجوار وشارع بادنجتون وغير ذلك من الشوارع والأماكن، موجود أيضا وبعلومات تفيض عن الحاجة.
إذن يمكن كتابة روايات عن أماكن من دون رؤيتها، لكن هل تمت الإجابة عن السؤال فعلا؟
أعتقد لا، فما زال ثمة شيء مفقود هنا، أي في النصوص التي تكتب عن الأماكن بعد البحث عنها في الإنترنت أو الكتب، وأعني هنا الروح الحية، وصدقا مهما شاهد أحد مكانا في التلفزيون أو السينما، ومهما قرأ عنه في الإنترنت، لن يحس بامتلاكه المعلومة كاملة إلا بعد رؤية المكان، هناك سحر متفرد في رؤية العين، وسحر آخر في وقع الخطوات وهي تقترف المشي في الأماكن، وهكذا، هذه الروح ربما لا تكون عاملا مؤثرا كبيرا لدى القارئ الذي يتابع النص، وقد لا يهتم أصلا بالسؤال إن كان الكاتب زار تلك الأماكن التي يكتب عنها أم لا؟ فقط تظل هاجسا لدى الكاتب نفسه، هو من يحس بوجود بهار ناقص في الطبخة، وقد يمتلكه هاجس كبير، أنه أخطأ في الوصف، أو ذكر أشياء غير حقيقية، وغير موجودة أصلا، هو التقطها من الإنترنت، التي مع توفيرها لهذا الكم الهائل من المعلومات، يمكن أن تغش أيضا. هنا تمت الإجابة كما أعتقد، التي نلخصها في أن الكتابة عن أي شيء ممكنة، فقط الأمر يحتاج لجرأة وإحساس بالمغامرة، وأصلا الكتابة الإبداعية كلها، مغامرة ربما تنجح وتمجد كاتبها وربما تخفق وتدفنه.
٭ كاتب سوداني
على تعدد رواياتك المنشورة يادكتور، لكن شهرتك الحقيقية جاءت من النشر في جريدة القدس لا من الروايات.ما تفسير ذلك ؟