من الأشياء الجيدة التي حدثت بعد الثورة السودانية، في ما يخص الأدب، أن عددا من المتابعين كتبوا ما يشبه المناشدة للكتاب السودانيين، أن يتزودوا بخامات جديدة للكتابة، من ساحة الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش، التي كانت مكان اشتعال الثورة، وتحولت بمرور الأيام، إلى ساحة خصبة للحياة كلها، أي أن المجتمع كله تواجد فيها، بكل ما يحمله من هم، وفرح، وابتهاج، وثقافة، وتراث، وكل ما يشكل المجتمعات عادة، وأظن أن مثل هذه المبادرات، اعتراف أكيد بدور الأدب في حياة الشعوب، حتى بعد أن تراجع دور المثقفين في حمل النبؤات التنويرية.
أتفق إذن مع الداعين إلى صياغة الثورة أدبيا، وهو ليس طلبا يمكن قبوله أو رفضه، لكنه واجب حتمي على الكتابة السودانية، خاصة أن سنين من القحط المعنوي مرّت على البلاد، هي حقيقة لم توقف القصص من أن تُكتب، والشعر من أن يُقال ويبدع قائلوه، والمسرح من أن يخترع نصوصه المتحايلة على البطش، ويؤدي بلياقة جيدة، بل على العكس قد تكون أججت كل ذلك، وظهرت لنا أجيال فيها موهوبون عظماء، ومجيدون، لكن الكتابة عن حدث كبير وواضح مثل الثورة، ومكان كبير وضاج مثل ساحة الاعتصام، سيكون مختلفا بلا شك.
لقد تابعت كثيرا من النشاطات هناك، من على البعد، وكنت أود لو ذهبت إلى هناك لو سمحت ظروف العمل، وهي لم تسمح حتى الآن، ومؤكد شاهدت الكثير من المعاني الجيدة وأيضا لمستها، وقد ذكرتني المنصة المنصوبة للآراء المتنوعة، وأن كل من أراد يمكنه أن يدلي برأي حر، بذلك الركن الشهير في « هايد بارك»، في قلب لندن الضاج، وكنت ذهبت لأشاهد تلك التجربة الفريدة في تأكيد الذات والهوية وطرح المشكلات المزمنة على الرأي العام، لأشخاص إما هاجروا إلى بريطانيا تماما، وإما عابرين بها لأي غرض. ساحة الاعتصام وما فيها من تنوع شبيهة بذلك الركن، وإن كانت المساحة أكبر، والتنوع أغزر، والحدث في حد ذاته طازجا لدرجة أن الحديث لن ينتهي حتى تستقر الأمور.
كتابة رواية تتناول ذلك المكان وتداعياته، ستكون خصبة بلا شك، خاصة أن المسألة سلمية تماما، وتتناسب مع أجواء الكتابة الموحية. ورغم كل الحشود الموجودة، لا أحد يتعدى على أحد جسديا، لا صوت أعلى من صوت الثورة، وحتى النكات التي تلقى، والأغاني التي يأتي بعض المغنين المخضرمين للصدح بها، كلها داخل نطاق العمل الاحتجاجي، والجهد المبذول من أجل الحفاظ على الثورة، وعدم ضياعها، ومؤكد هناك من يسعى لذلك الضياع بضراوة.
كتابة رواية تتناول ذلك المكان وتداعياته، ستكون خصبة بلا شك، خاصة أن المسألة سلمية تماما، وتتناسب مع أجواء الكتابة الموحية.
لقد جذبتني صور كثيرة وأشرطة فيديو معبرة، من تلك التي تمثل الشباب يتحدثون بتشنج عن رؤياهم للوطن الجديد، والفتيات وهن يشاركن في إعداد الطعام، أو يحملن اللافتات الداعية لدولة مدنية، وأكثر ما أبهجني وجود عدد كبير من المسنين، لم تهشهم الشمس الحارقة في نهار رمضان،، ولم ينههم كبر السن عن المشاركة، وبالتالي تشكلت تلك الملحمة المكتوبة هناك، والتي تكتب كل يوم.
السؤال الملح، هو كيف تكتب رواية بأحداث وشخصيات متنوعة، عن حدث كهذا؟
وهل هناك بالفعل أدب يستطيع لمّ أحداث كبرى مثل ذلك الحدث، بحيث يتم تذوقه؟
لقد فكرت كثيرا في هذا الأمر، وكتابة الرواية كما هو معروف، لا تأتي عند معظم الكتاب بقصد أن تكتب، إنها تراكمات لأحداث يعرفها المؤلف أو تعرّف إليها عرضا أثناء حياته، ثم جاء وقت كتابتها، فخطرت على البال، أي أن من الصعب جدا أن يذهب مؤلف إلى ساحة الاعتصام، يجلس مع الناس، يحاورهم، يهتف معهم، يتناول معهم طعام الإفطار أو السحور، ثم يعود إلى بيته آخر الليل ليكتب رواية، يذكر فيها بعض الأشخاص ويصف آخرين، ويخترع حدثا دراميا، يتابعه.. هكذا.
هنا لن تكون الرواية في رأيي ملهمة أو مهمة، أو جاذبة، إنها أشبه بالتوثيق أو كتابة اليوميات، ولا شيء آخر، ولو تركت تلك اليوميات في الذهن أشهرا أو سنوات، ستختمر معانيها جيدا، وسيأتي المدخل الذي يجرها إلى الأدب، أيضا سيأتي الخيال بعدته وعتاده ويكمل صناعة الرواية. لقد حدثت ثورات عدة كما هو معروف في الوطن العربي في الأعوام الماضية، ثورات أدى بعضها لاستقرار الأوطان، وبعضها للتمزق، وبالطبع شارك الأدباء في كتابة أعمال روائية وقصصية عن كلا الحالتين، وأظن أن بعض تلك الأعمال كان متعجلا بعض الشيء، ولم يحظ باهتمام، ذلك أنه كما قلت صياغة خام ليوميات، لم يتدخل في تنشيطها خيال ولا إبداع، على العكس كانت هناك كتابات جاءت بعد فترة، كتبت بانضباط شديد وإيقاع ورموز ذات أبعاد، عن تلك الأحداث، والذي يتابع الأدب السوري مثلا، يجد عشرات الروايات الناضجة مما كتبه خالد خليفة ومها حسن وسوسن حسن وزياد حمامي، وغيرهم، تلك الروايات التي لم تؤرخ للثورة أو الحرب فقط، بل تعدت ذلك إلى مجتمعات ما بعد الحرب، مجتمعات التشرد واللجوء، والبحث عن أوطان بديلة، تحتضن المأساة وتطفئ نارها، مثل هذه الأعمال ينبغي كتابتها عندنا، أن نأخذ شرائح من الأحداث وننسج منها عالما، نستلف شخوصا من الصامدين في ساحة الاعتصام، ونصنع بتواجدهم نصا يحتمل التفاؤل وغير التفاؤل، وأعتقد جازما أن هذا سيأتي فقط، يحتاج الأمر إلى ترو كبير، وإلى صبر، وأيضا سيساهم الاستقرار الذي نتمنى حدوثه، في تفعيل الإبداع.
٭ كاتب سوداني
كتابة جميلة كالعهد بك مقال تميز بالعمق
نبوءتك لم تعمر أكثر من 24 ساعة.ساحة الاعتصام تحولت إلى هرج ومرج بالدم ورحيل الخيام.