صدر حديثا عن دار أكورا للنشر والتوزيع، كتاب للروائي والناقد المغربي نورالدين صدوق موسوم بـ»الذات والعالم» وهو عبارة عن دراسة في جنس اليوميات، خاصة يوميات أدباء مغاربة، يتعلق الأمر بكل من محمد خير الدين، محمد شكري، عبداللطيف اللعبي وعبدالله العروي، وكذا التصور الغربي والعربي لكتابة اليوميات.
ففي كتابه هذا أفصح الناقد والروائي نورالدين صدوق عن دواعي التأليف، التي أملتها رغبته الملحة في نفض الغبار عن جنس أدبي لم يحقق تداوله بما يكفي، سواء من حيث الإبداع أو التلقي النقدي، يقول في مستهل كتابه الصفحة «إن الغاية من التأليف الذي نحن بصدده، محاولة البحث في جنس أدبي لم يحقق تداوله بشكل واسع من حيث الإبداع أو التلقي النقدي، فالمنجز المتراكم في هذا الجنس، وأقصد اليوميات، من ثم لم يقتصر التأليف سوى على الأدب المغربي الحديث».
كتابة اليوميات أشبه بحديث أو حوار يومي بين الكاتب ونفسه عبر الورق، أو المدونة، وهي بمثابة بوح عن مكنونات النفس ولواعجها، أو تدوين الأفكار والقناعات التي يعتز بها، سواء جاهر أو احتفظ بها لنفسه، إلى ما استخلصه من رؤى وتقييم لمجريات الأحداث الخاصة أو المحيطة به، وانعكاسها عليه
وتبقى اليوميات الصديق الأقرب والأوفى للإنسان، لكونها تحتفظ بذاكرته، على عكس الأصدقاء والأقرباء الذين عندما يرحلون، سواء إلى بلد آخر أو يفارقون الحياة، يأخذون معهم جزءاً من ذاكرته، التي لن يستطيع مشاركتها مع أحد غيرهم سوى اليوميات التي تبقى بعد رحيله هو الآخر.
وتتميز كتابة اليوميات عن أي نمط كتابي آخر، بأسلوبها الحر في التعبير بعيداً عن قواعد وحواجز اللغة. كما أنها تساعد كاتبها على التواصل مع نفسه الداخلية، أو عقله الباطن، فالتداعي في الكتابة الحرة لكل ما يخطر بالبال، يساعد على تهدئة النفس وتحريرها من الأفكار الأولية، التي تهيمن على العقل الواعي، لتستبدل تلك الأفكار بالتي تختزن في العقل الباطن، ولا يصل صاحب اليوميات إلى هذه المرحلة إلا بعد مضي مرحلة من الزمن. وتختلف اليوميات عن المذكرات أو السيرة الذاتية، لكونها فعل كتابة يومي يوثق الحدث والحالة الآنية، وما يرافقها من انفعالات ونتائج، بينما تعتمد المذكرات على سرد لماض بعيد وقريب، مع استخلاص النتائج والانطباعات، وتعتبر اليوميات في هذا الإطار بمثابة مرجع دقيق لكتابة المذكرات، أو السيرة الذاتية من قبل طرف آخر. وإذا كانت الكتابات الغربية قد حظيت باهتمام كبير ولاقى الكثير منها دراسات نقدية أعادت فيها الروح وترجم معظمها، رغم أن بلاغة التأثير لم تصل ذروتها، كما الكائن في أجناس أدبية أخرى، كالرواية والقصة والمسرحية، فإن اليوميات التي تم الاحتفاء بها كجنس غربي، لم تنل الإحتفاء ذاته وبالدرجة نفسها في يوميات كتّاب مغاربة بالشكل الكافي، الذي يعطي اعتبارا لوجود هذا الجنس الأدبي، الذي يرتبط في أغلبه بالذات وبحقبة زمنية من الماضي. وعلى هذا الأساس وانطلاقا من رغبة الروائي نور الدين صدوق في زرع الروح ليوميات غنية على مستوى الدلالة والبناء واللغة، تناول كتابات لرواد مغاربة في هذا الجنس الإبداعي المتفرد في الخصائص.
إن كتاب «الذات والعالم» من خلال يوميات كتاب بارزين تتفرع دراسته إلى شقين: شق عام وآخر خاص، على أن العام يتوخى تشكيل تصور تقريبي عن جنس أدبي لم يأخذ حقه من الدراسة والنقد، ألا وهو جنس الكتابة المرتبطة أساسا بأحداث يومية عاشها الكاتب، أو كان طرفا فيها، هذا التصور التقريبي هو ما سماه الكاتب نور الدين صدوق بالقسم النظري، إذ تناول فيه مفهوم اليوميات من منظور الغرب، وكذا من زاوية النقاد العرب. أما الجانب الخاص فقد ركز فيه الكاتب على دراسة تطبيقية لنماذج كتابة اليومية لكل من محمد شكري «جان جونيه في طنجة» عبداللطيف اللعبي «شاعر يمر» عبدالله العروي «خواطر الصباح» خير الدين محمد «يوميات سرير الموت».
ويضيء الناقد نورالدين صدوق جوانب مهمة من كتابات اليوميات التي تعكس في محتواها التوثيق لأفعال وأحداث ارتبطت بالذات في زمن معين، وهي أشبه لحد كبير بجنس السيرة الذاتية. ولاستجلاء آليات كتابة اليوميات ارتأى الباحث نورالدين صدوق أن يفرد حيزا مهما من هذه الدراسة الغنية، للحديث عن تصورات نقاد غربيين ينحدرون من مدرستين مهمتين، المدرسة الفرنسية والمدرسة الإنكليزية، قبل أن يتناول بالدراسة والتحليل والمقارنة نماذج من كتاب يوميات عرب ومغاربة. فاليوميات انطلاقا من وجهة نظر نقاد غربيين هي الكتابة أو التدوين يوما بيوم، كما جاء في يوميات باتريس ديدين من خلال «اليوميات الحميمية» واللافت أن كاتب اليوميات يتفرد بخاصية الحرية، في ما يختار من عمل على تدوينه، ولا تخرج الناقدة الفرنسية ديديه عن تعريفها لكتابة اليوميات كونها لا تنسلخ عما هو ذاتي صرف، لكنها تدون اللحظة كحاضر، أي أن بناء اليوميات يصير على شكل شذرات محورها الأساس الذات.
ويبقى كتاب «الذات والعالم» للناقد والروائي المغربي نورالدين صدوق دراسة نقدية قيمة، تناولت اليوميات من خلال ثلاث مدارس مختلفة (المدرسة الغربية، العربية والمغربية) وحاول من خلالها تقريب مفهوم اليوميات والسيرة الذاتية والمذكرات.
إن نورالدين صادوق في دراسته ليوميات كتّاب مغاربة، عرب وغربيين، حاول تجسيد الإختلاف بين أجناس أدبية جد متقاربة، إن لم نقل متقاطعة، سواء من خلال البوح بما هو ذاتي محض، أو من خلال عنصر الزمن، اليوميات، المذكرات والسيرة الذاتية. وفي هذا الصدد طرح الكاتب نماذج من يوميات كتّاب فرنسيين وآخرين إنكليز، ووقف على تشابه في بناء كل من اليوميات والسيرة الذاتية على مستوى توظيف عنصر الزمن، لأن ما يدون بشكل يومي يتم التأريخ له تطبيقا لمقولة «لا يوم دون سطر».
وبخصوص اليوميات في التصور العربي، فقد حدد الكاتب نورالدين صدوق ظهورها مع الروائي المصري توفيق الحكيم من خلال «يوميات نائب في الأرياف» التي يسرد فيها مشاهداته من الحوادث والقصص التي عرضت عليه أثناء عمله في القضاء، في أحد مناطق الريف المصري. وتدور أحداث الرواية حول معاناة هذا النائب القادم من القاهرة إلى الأرياف، وكيف يمضي وقته في محاربة البعوض والذباب، والاصطدام مع المأمور وكاتب النيابة. ثم محمد حسين هيكل من خلاى نصه الروائي «زينب». وعلى الرغم من الفارق في الزمن، فإن كتابة اليوميات لم تحظ بالتحقق والتداول، إلا من خلال تجربة ثانية أبدعها عباس محمود العقاد، نظرا لهيمنة جنس القصة والرواية والمسرحية.
على أن هذه الدراسة التي تبنت منهج المقارنة والتحليل من خلال نماذج ليوميات غربية وعربية، ركزت في الشق المغربي، وهو المستهدف من خلال هذه الدراسة القيمة، من خلال دراسة أربعة أعلام مغربية برزوا وبرعوا في كتابة جنس اليوميات وظلت أعمالهم بعيدة عن الدراسات النقدية التي قد تزيل الغبار على متن سردي له خصائصه ومميزاته .
والأكيد أن عبد الله العروي ومن خلال يومياته التي عنونها «خواطر الصباح» أصدرها في سلسلة من أربعة أجزاء بدأت من عام 1967 وكان آخرها ينتهي بعام 2007. وهكذا كان يروي تأملاته في التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي في المغرب، ضمن سياق البلاد الأكبر في المحيط العربي، حيث التحولات السياسية الكبرى داخل البلاد وخارجها، تظهر في اليوميات المكتوبة دون تسلسل كرونولوجي وبلغة أدبية سردية. أما الكاتب المغربي محمد خير الدين، فقد نشر يومياته بالفرنسية خلال فترة معاناته من المرض. وقدم محمد شكري في مذكراته «جان جينيه في طنجة» صورة له ولمقابلاته مع جان جينيه وتينيسي وليامز، لدى زيارة الكاتبين للمغرب، ويصف نفسه والمدينة وعلاقته باللغة والآخر. في حين جمع الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي في يومياته «شاعر يمر» بين هذا وذاك، بين الشخصي والعام، بين الكتابة عن الذات والتأمل فيها، وسرد اليوميات وأحداثه وأسفاره وأمسياته الشعرية، وأشياء أخرى ارتبطت بما هو ذاتي صرف .
ويبقى كتاب «الذات والعالم» للناقد والروائي المغربي نورالدين صدوق دراسة نقدية قيمة، تناولت اليوميات من خلال ثلاث مدارس مختلفة (المدرسة الغربية، العربية والمغربية) وحاول من خلالها تقريب مفهوم اليوميات والسيرة الذاتية والمذكرات، وأوجه الاختلاف والتشابه، ومهما يكن فهي قراءة لن تستوفي الكتاب حقه، بالنظر لتعدد فقراته وأبوابه، وآمل أن أكون قد قدمت ولو إضاءة بسيطة حول دراسة متميزة لجنس أدبي لطالما ظل بعيدا عن أذواق النقاد، ولم ينل ما يكفي من التتبع والمواكبة النقدية.
كاتب و إعلامي مغربي
هل هناك من يتوفر على الكتاب بشكل إلكتروني ارجوكم