القاهرة ــ «القدس العربي»: هاشم النحاس ـ مواليد عام 1937 ــ اسم مهم في تاريخ السينما الوثائقية المصرية، والحركة السينمائية بشكل عام، نقداً وتأليفاً وترجمة لمؤلفات مهمة في الفن السينمائي. صدر له مؤخراً كتاب بعنوان «اللغة السينمائية.. مبادئ أولية في النظرية والتطبيق»، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. وفيه يحاول النحاس تقديم شرح موجز لنظرية (رودلف آرنهايم 1904 ــ 2007) عن فن السينما، ثم تطبيقها على فيلم النحاس نفسه «النيل أرزاق»، الذي كتبه وأخرجه عام 1973.
الفن والواقع
«فن الفيلم هو نتاج للشد والجذب بين التمثيل والتحريف للواقع، فهو لا يقوم على الاستعمال الجمالي لشيء في الدنيا، بل الاستعمال الجمالي لشيء يقدم لنا هذه الدنيا». (آرنهايم) تنطلق رؤية آرنهايم مما يمكن أن يُطلق عليه الواقع الفني، وإن كان آرنهايم ينتمي إلى الشكلية، إلا أنه على وعي شديد بالفعل الفني، بحيث لا يطغى الشكل على المعالجة السينمائية للموضوع. نقطة أخرى يراها آرنهايم تختلف عن الواقع ـ أو ما يُسمى بالواقع ـ ألا وهي التقنية، فالسينما صورة مسطحة، حتى إن أوحت بالعمق عن طريق الإضاءة والعدسات، ولا تعتمد سوى على صوت وصورة، هنا أيضاً يصبح العامل الانتقائي عنصراً آخر، على اختلاف السينما عما تعرضه من موضوعات، تبدو أنها تمثل الواقع، لكنها في الحقيقة تختلق وفق تقنياتها ورؤية الفنان، ما يوحي بأنه واقع. فكل من شريطي الصورة والصوت لا ينتميان إلى أي شيء نظنه مألوفاً أو نعيشه بالفعل. أضف إلى ذلك ـ حسب النحاس ـ قدرة عدسة الكاميرا وحركاتها في الإحاطة بالمشهد مثلاً، وهو ما لم تستطع العين البشرية أن تراه في الحياة. ومن العناصر الأخرى يأتي الزمن ـ الزمن الفيلمي ـ الذي يتنافى تماماً مع الزمن الحياتي، حتى إن لم يتخذ لحظات وفترات زمنية مختلفة.. زمنا ماضيا أو مستقبليا، أو قفزات زمنية كأن تنتقل الشخصية من الطفولة إلى الشباب في لحظة.
ويرى آرنهايم أن كل اختلافات العملية السينمائية، ما هي إلا جمالياتها الخاصة، القاصرة عليها، والتي من خلالها يستطيع الفنان أن يعبّر عن الواقع أفضل مما هو عليه، أو بمعنى أدق ما يجب أن يكون عليه من وجهة نظر صانع الفيلم. كالإطار (الكادر) وترتيب عناصره، أحجام اللقطات، حركة الكاميرا، العدسات من حيث التنوع والتوظيف، وأخيراً يأتي المونتاج على اختلاف أساليبه، ودوره الخلاق في صنع الفيلم، كل هذا في سبيل خلق المعنى أو الدلالة الفنية للعمل السينمائي في النهاية.
«النيل أرزاق»
ويستشهد هاشم النحاس في الجزء الثاني من الكتاب بفيلمه «النيل أرزاق»، مناقشاً جمالياته وبعضا من طرق تنفيذه، ودلالة اختياراته الفنية والجمالية كمخرج. يبدأ النحاس ببعض النقاط السريعة حول طريقة تنفيذ الفيلم، بداية من اختياره أن يكون بالأبيض والأسود، ثم شريط الصوت المعتمد على المؤثرات الصوتية بالأساس، بخلاف مشهد وحيد اعتمد الموسيقى، وهو لتأكيد دلالة اختلافه عن الجو العام للفيلم، فالنيل مصدر رزق وشقاء الناس، يصبح في المشهد المُومَوسَق عبارة عن اثنين يتناولان الطعام في كازينو على النيل.
يصبح مشهد الصياد في مركبه النيلي هو ضابط إيقاع الفيلم، هو وزوجته وأطفاله، حيث حياتهم بالكامل في النهر.. العمل وطبخ الطعام، وربما السكن عند الشاطئ. أما الحالات الأخرى، حيث العمال وأعمالهم المختلفة، فهي تتماشى وموضوع الفيلم.. فكرة الرزق، التي يكون النيل مصدرها، رغم الكثير من التباين في حياة وعمل هؤلاء.
ينطلق النحاس من فئة أصحاب الرزق اليومي (الأرزوقيّة) بالتعبير العامي المصري. وتتنوع اللقطات ما بين صيادي السمك، وأصحاب المعديّة النيلية، التي تنقل الناس والدواب من ضفة إلى أخرى، ثم أعمال مختلفة شاقة يكون محورها النيل.. تفريغ التبن من السفن الراسية، صناعة الطوب اللبن من طمي النيل، تفريغ مركب آخر من كتل حجرية كبيرة، وهو ما يوضح صعوبة العمل والمشقة التي يتحملها هؤلاء العمال. ويخلق النحاس التضاد أو المونتاج الفكري بين حالة صياد السمك ومصير هذه الأسماك، التي تصبح بعد تخليصها من الشباك في كازينو راقٍ على النيل، يُقدّم في أطباق، لشاب يتناول الطعام مع صديقته أو حبيبته، هنا تكف المؤثرات وتدخل الموسيقى، حتى يتم التأكيد على تباعد العالمين، مع وجود عامل مشترك يهبه النهر، وهو السمك.
ويختتم النحاس بالانتقال من الفتاة التي تمضغ السمك ضاحكة، إلى امرأة الصياد وهي تحتضن طفلها بيدها اليسرى، وتواصل التجديف بيدها الأخرى، هذا الطفل الذي يتخد مكانه وكأنه يساعد أمه على التجديف.
تبدو جماليات الفيلم في أسلوب السرد البصري الذي ينتهجه النحاس في عمله، بداية من اختيار لون حياة هؤلاء ـ الأبيض والأسود ـ ثم السرد السينمائي للقطات تتخذ أيقونات الجسد البشري، كالأيدي والأقدام، وكأنهم اجتزاء لصورة إنسان كامل.
الجماليات
تبدو جماليات الفيلم في أسلوب السرد البصري الذي ينتهجه النحاس في عمله، بداية من اختيار لون حياة هؤلاء ـ الأبيض والأسود ـ ثم السرد السينمائي للقطات تتخذ أيقونات الجسد البشري، كالأيدي والأقدام، وكأنهم اجتزاء لصورة إنسان كامل، فكرة التشيؤ في العمل، هنا يصبح الإنسان أشبه بالآلة، مغترباً عما يفعله ـ لا ننسى هنا استحضار ماركس ـ يؤكد النحاس ذلك من خلال شريط الصوت، فقط مؤثرات تنقل حالة الحياة الخشنة والقاسية التي يحياها هؤلاء.