انطلاقا من قراءة المتن الروائي المغربي الذي بدأت ملامحه الجمالية والفكرية تتضح مع بداية القرن الحالي، مع روائيين وروائيات، يشغلهم هاجس الانغمار في معترك قطيعة جريئة مع قواعد الرواية التقليدية ومشترطاتها، يخلص الباحث المغربي إدريس الخضراوي إلى أن الكاتب يتطلع بقوة إلى الانغمار في العالم الاجتماعي مسنودا بالفعالية التخيّلية، أي بالرواية باعتبارها معرفة تشييدية بالأساس، فهي تتوسط العلاقة بين الكاتب والعالم، ويسعف شكلها على معرفة الغرابة المقلقة التي يتدثر بها الوجود.
في كتابه الموسوم بـ«سرديات الأمة: تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة» الصادر ضمن منشورات «إفريقيا الشرق» بدعم من وزارة الثقافة، يسعى الباحث الخضراوي إلى تقديم قراءة نقدية ثقافية في الرواية المغربية المعاصرة خلال بداية هذا القرن، في علاقتها كنصوص بكُتّابها وقرّائها وبالبنيات الخارجية والسياقات الثقافية المؤثرة في الإنسان وتطلعاته وبحثه اللاهث عن الحقيقة. وينطلق الباحث من اقتناع معرفي/ منهجي مفاده أنه لتجاوز «مأزق» النقد الروائي العربي، الذي حصر نفسه في مناهج نقدية محددة في ضوء شروط ثقافية مناقضة، من الأجدى تبني تصور نقدي ثقافي حواري يستوعب التوجهات النقدية المعاصرة، التي تعطي أهمية كبيرة للفعالية التي تنهض بها النصوص في سياقها الاجتماعي والثقافي والسياسي.
وبهذا، يعيد النقد الثقافي للأدب قيمته الذاتية التي يتميز بها عن باقي الخطابات، ويتقصى ما ينطوي عليه من تعقيدات تتأبى على القراءة الاختزالية المحكومة بفهم مسبق للأدب، إما بوصفه خطابا يستنسخ الواقع الاجتماعي بطريقة آلية، أو بالنظر إليه على أساس أنه خطاب مجرد من أيّ إحالة، سوى الأدبية التي تحظى بالأسبقية في إدراك التخييل وفهم آليات اشتغاله. من هذه الزاوية، يعتبر الباحث أن التحدي بالنسبة للنقد يكمن ليس في قراءة النصوص الأدبية باعتبارها تحققات جمالية فحسب، وإنما بوصفها أعمالا متجذرة في السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية. وهكذا، يحاول الباحث الخضراوي في كتابه الكشف عن همّ الانخراط ـ عبر وساطة السرد ـ في أسئلة الوجود المغربي، من خلال التمثيل الثقافي للقضايا والإشكالات الضاغطة التي تؤثر في المجتمع وهويته وتاريخه وتحولاته المتسارعة. كما يروم الباحث استكشاف ما تستبطنه الكتابة من ضروب الحيوية، سواء على مستوى الشكل المنفتح، الذي يستفيد من أهمّ ما تتيحه التعبيرات والجماليات المتنوعة لتعميق الصراع السردي، أو على مستوى الخطاب في دلالاته الاجتماعية الثقافية التي تحتفل بمحددات الزمن التاريخي، ليس من حيث التركيز على أسئلة الذات وما يصيبها من أشكال التمزق والتشظي فحسب، وإنما كذلك من حيث التقصي في التاريخ والذاكرة والهامش الاجتماعي.
يحمل الفصل الأول للكتاب عنوان «الرواية، التحولات ورهانات الكتابة»، وهو يرمي إلى التقصي في التطورات التي شهدتها الرواية المغربية عبر لحظات أساسية في تاريخها الحديث، ليس فقط على مستوى التراكم النصي الذي تحقق في مجالها، وإنما كذلك على مستوى الاقتراحات الجمالية والفنية التي ما فتئت تبلورها، متجاوزة بذلك أشكال الكتابة السردية التي كان يستحكم بها هاجس تمثيل الواقع على نحو مباشر وشفاف. ويركز الباحث على الرواية المغربية المعاصرة منذ بداية الألفية الثالثة، مبينا كيف تنبع الرواية من صميم هذه المرحلة المطبوعة بالطلب المتزايد على الديمقراطية والمساواة والصرخات المطالبة بتعزيز الحياة.
ويهدف الفصل الثاني المعنون بـ«السرد وثقافة الذاكرة» إلى تقصّي مساهمة الرواية المغربية المعاصرة في تشييد عوالمها، انطلاقا من تمثيل الذاكرة السياسية، خاصة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وذلك عبر تحليل نصين روائيين: «طائر أزرق نادر يحلّق معي» ليوسف فاضل و«الناجون» للزهرة رميج، مع تسجيل ملاحظة، أن في هذين النصين تتجلى جمالية الكتابة في رواية القمع، وهي تفصح عن مضامينها ورؤاها بكلام روائي واقتراحات جمالية.
أما الفصل الثالث المخصص لـ«التخييل التاريخي والأسئلة المضمرة» فينصب فيه الاهتمام على قراءة اشتغال الرواية انطلاقا من عملين روائيين: «هذا الأندلسي» لبنسالم حميش و«أبو حيان في طنجة» لبهاء الطود، وهما عملان يشتركان معا في تمثيل الحدث التاريخي، من خلال استثمار المتخيل الثقافي للإصغاء لزمنية تنضح بقيم التسامح والاختلاف والتنوع، ومقاومة مضايق الفكر الأحادي. وبهذه «المغامرة التخييلية» التي تغوص في التاريخ وتسائل أحداث الماضي، تتجسد الكتابة في النصين معا، وهي تستفيد من التراث الثقافي، بوصفها ثمرة توسط بين تجربة الماضي وأسئلة الحاضر المثقل برعب التصلب والانغلاق. يتناول المؤلف في الفصل الرابع المعنون بـ«سرد انزياحات الهوية» تمثيل الرواية للروابط المقطوعة بين الفرد والعالم، ولتجربة الذات في علاقتها بالآخر، وما يتولد عن ذلك الاحتكاك من ضروب التحول في الوعي بالهوية. ولتحليل هذه الإشكالية يقارب الباحث روايات محمد برادة، وكذلك رواية «جيرترود» لحسن نجمي، مستنتجا أن هذين الكاتبين يضطلعان في أعمالهما بدور يتعدى الطرح المباشر والتقريري لتمثيلات الآخر، إلى الاشتباك مع هذا الحقل المعقد والواسع، من خلال رؤية تعيد طرح الأسئلة الصعبة المتصلة بتجربة اللقاء بالآخر، وتشخيص ما يولده ذلك اللقاء من ضروب الصراع مع الذات والهوية والمجتمع. في حين يتقصى الفصل الخامس الذي يحمل عنوان «كتابة الهامش الاجتماعي» في عناية الرواية المغربية المعاصرة بكتابة الهامش الاجتماعي، وتكريس حوارها مع الذين يشعرون بأن الحداثة تستبعدهم من خلال استدعاء موضوعات وعلاقات إنسانية، وفئات اجتماعية، تختلف من حيث الحضور باختلاف الحضور، وباختلاف وعي الكاتب بدوره في واقعه ودور عمله فيه. يمثل الباحث لهذا الضرب من الكتابة برواية «تغريبة العبدي» لعبد الرحيم حبيبي ورواية «عزوزة» لزهرة رميج.
وتحت عنوان «السيرة الذاتية، الحقيقة المستعادة وجمالية الكتابة»، يحلل الباحث في الفصل السادس نصين روائيين هما: «والد وما ولد» لأحمد التوفيق و«ذاكرة مستعادة» لأحمد اليبوري، حيث يستجلي المميزات الفارقة للكتابة عن الذات فيهما، ويستقصي مكوناتهما الفنية والجمالية، كما يتلمس الدلالة المرتبطة بما تتيحه الكتابة الاستعادية من منافذ مختلفة للانفتاح على الأسئلة المقلقة المرتبطة بتمثيل الهوية.
تبقى الإشارة إلى أن هذا الكتاب الواقع في 340 صفحة من القطع المتوسط، تتصدره مقدمة للناقد والباحث المغربي عبد الرحمن طنكول، الذي يحدد الأهداف العميقة التي يرمي إليها الكاتب من خلال مؤلفه في:
ـ إخراج الرواية المغربية من عوالم المحلية والتعامل معها كسؤال إبداعي يهم الإنسان بغض النظر عن انتمائه الجغرافي والحضاري.
ـ ربط الجسور بين الاجتهادات النظرية والفكرية المغربية، بما يعرفه البحث الأبستمولوجي على الصعيد العالمي من تغيرات وقطائع.
ـ المساهمة في تكوين قارئ جديد ينظر إلى الرواية كفضاء مركب سحري يتحقق فيه سرد ذاكرة الأمة عبر أشكال وأساليب تستدعي باستمرار القراءة والمراجعة.
٭ كاتب صحافي من المغرب