في الجزائر، القراءة في تراجع، مبيعات الكتب كذلك، معرض الكتاب بات مسرحاً لالتقاط صور السيلفي، والإعلان عن نجاحات نجوم الإنستغرام، بينما الكتب المهمة تظل مُكدسة. كما إن عدد المكتبات في تضاءل. والمكتبات العامة، التي تستفيد من دعم الحكومة، تحولت إلى ملجأ يخص تلاميذ المدارس الثانوية، يُراجعون فيها دروسهم، ولا يُجازفون بمطالعة كتاب خارج المقرر. قلّت مبادرات الاهتمام بالكتاب ومحاولات تشجيع الأطفال على فتح كتاب، على غرار مسابقات القراءة، التي كانت تُكافئ كل طفل يُراجع كتاباً. فوزارة التربية تشعر بأن الأمر لا يخصها، وهي نفسها منشغلة بمشاكلها البيداغوجية، والمسؤولية تُلقى على كاهل وزارة الثقافة، التي تكتفي كل سنة بتخصيص مالٍ من أجل طبع كتب جديدة، من غير التفكير في صنع قراء، ما عمم حالة من اللاجدوى بين أوساط الكتاب. لماذا لا نكتب، بينما القارئ قد استقال من موقعه؟ فضل الانعزال ممسكاً بموبايل، يتصفح حسابه على السوشيال ميديا، أو يتلصص على أحدث الفضائح أو الفيديوهات، بدل السؤال عن العناوين التي تصدر. الجميع يحمل التكنولوجيا الجديدة أكثر مما تحتمل، وأنها مسؤولة عن الحال التي وصلنا إليها. كأنها هي المسؤولة عن التصحر الذي يعرفه سوق الكتاب. مع أن بلداناً أخرى، حيث تدفق الإنترنت أفضل مما عليه في الجزائر، والتكنولوجيا متاحة بشكل أرقى، لم تتخل عن عاداتها في القراءة. ونجد في سياق عالمثالثي، بلداناً يُطالع فيها المواطن ما لا يقل عن 15 عنوانا في السنة. بالتالي فإن المشكلة داخلية، والجزائر تحتاج إلى تصالح مع وضعها، أن تبحث عن سبيل في المزج بين المطالعة والتكنولوجيا الجديدة، من أجل توسيع بساط المقروئية. هذا الواقع يلزمنا أن نستغل الموبايل في التحريض على القراءة، بدل أن نجعل منه خصماً لنا.
مواجهة بين عالمين
«الجيل الجديد لا يقرأ لأنه تحت تأثير الموبايلات»، هكذا يتكلم أستاذ في مدرسة ثانوية، في الإذاعة. يعلن استسلام المنظومة التربوية، منذ الوهلة الأولى. تسقط أمام موبايل بالضربة القاضية. من غير أن يُخبرنا هل بادروا إلى أفكار من شأنها التخفيف من سطوة الموبايل على الكتاب الورقي. بينما المدارس، في بلدان أخرى، تصر على إنشاء مكتبة في كل صف دراسي، لا نزال عاجزين في الجزائر، على تشييد مكتبة واحدة في مدرسة. كم عدد المدارس التي تحوز مكتبات؟ من الأفضل ألا نهتم بالرقم كي لا تتضاعف الخيبة. وما هي الاستراتيجية التي تنتهجها إدارة المدرسة قصد تقريب الكتاب من الأطفال؟ منذ سنوات ونحن نسمع عن إتاحة ألواح إلكترونية في المدارس، وأن الكتاب المدرسي نفسه سوف يصير متاحاً إلكترونيا، قصد التخفيف من وزن الحقيبة المدرسية، التي تنهك ظهر التلميذ، لكن لا شيء تحقق في الواقع.
في الجزائر قناطير من الكلام يُقابلها الحد الأدنى من الالتزام بالوعود. وفي سياق مماثل، ما هي مبادرات الناشرين المحليين من أجل الترويج للكتاب، قصد الحد من كيلوغرامات الكتب المكدسة؟ لا يزال الرهان على الكتاب الورقي وحده. فالجزائر تبدو فعلاً جزيرة معزولة في علاقتها بالكتاب الرقمي. لا منصات للمطالعة، ولا أفكار تنحو صوب استغلال التكنولوجيا، في سبيل إيقاظ القراء من سباتهم. فالجميع ينتظر دعماً من الوزارة الوصية قصد طبع كتب، ولا يهم إن قرأها أحد أم لا. المهم أن الناشر قد كسب مالاً، فسلطة المال أهم من سلطة البحث عن حلول. كما أن مبادرات التشجيع على القراءة، والمسابقات الموسمية، التي كانت رائجة في الماضي، قد اختفت. كأن الناشر عزل نفسه عن الوسط الذي يحيا فيه كذلك، ثم يشتكي كل عام من غياب القراء.
سنة أولى قراءة
واحدة من الوقائع، التي تجري أمام أعيننا، من غير أن ننتبه إليها، هي اختفاء القواميس. هل هناك دور نشر لا تزال تصدر قاموساً أو موسوعة؟ لقد انتقلت القواميس إلى عالم آخر. صارت رقمية. لم يعد الإنسان يصبر على تقليب المئات من الصفحات قصد البحث عن معنى كلمة، أو البحث عن تعريف كلمة أخرى، بل تكفيه نقرة على النت ويبلغ مبتغاه. اختفاء القواميس تزامن مع انتقال الصحف إلى الرقمنة كذلك. صار القارئ يُطالع الأخبار من الموبايل، وليس من البحث عن الصحف في الأكشاك وعن اقتنائها. مع أن الجرائد والمجلات تقاوم جبروت الإنترنت، ولا تزال تصر على الخروج من المطابع، وتتيح محتواها على الوسيطين: الرقمي والورقي. في ظل هذا الواقع المتسارع، يتحتم علينا التفكير في المخرج، في استعادة روح القراءة، في الجزائر. بينما المكتبات العامة، التي تستفيد من سخاء الحكومة، لا تزال تصر على تكديس رفوفها بالكتب، لماذا لا تفكر في اقتناء المحتوي الرقمي من الكتاب، بل الاكتفاء بصيغته الورقية؟ إذا بادرت المؤسسة الرسمية إلى الانفتاح على سوق رقمية، فسوف تشجع الناشرين كذلك من أجل ولوج المغامرة ذاتها. واكتفاءها بما هي عليها الآن، سوف يشجع الناشرين على الاكتفاء بالورق كذلك، وتتكرر الأسطوانة بالحديث عن غياب القارئ، وسطوة الموبايل على الكتاب.
عندما اخترع الإنسان المطبعة، حقق غاية لم يكن يفكر فيها، وهي إشاعة الكتاب، ودمقرطة المعرفة. لم يعد الكتاب حكراً على الأرستقراطية، بل صار حقاً مشتركاً. لكن لم يفكر أحد حينذاك، أن نصل زمنا تصير فيه المطبعة عاجزة عن إشاعة الكتاب، والسبب ليس في عيب فيها، بل إنها تواجه شبحاً أقوى منها، اسمه: التكنولوجيا الجديدة. فهل نذهب نحو مواجهة مباشرة؟ إما الكتاب أو الموبايل! سيكون خياراً راديكاليا لن يفضي إلى نتيجة، بل الأصلح هو تطويع الموبايل في خدمة القراءة. مثلما تمكنت الموسيقى في تحديث نفسها، لم تعد محصورة في شريط أو اسطوانة يشتريها المستمع من متجر، بل صارت متاحة على منصات، يدفع الناس مقابلا من أجل الاستماع، فماذا يمنع الكتاب أن يتحول إلى هذه الصيغة كذلك، فتخرج الجزائر من أزمة غياب القراء.
كاتب جزائري