لا شكّ في أن قراءة مدخل رواية من خمس وأربعين صفحة يعدُّ عملية إنهاك حقيقية للقارئ، خاصة حين لا تظهر تباشير أي قصّة في الأفق، غير نص تنظيري طويل حول الكتابة والكُتّاب وطقوس الكتابة لديهم، ووصف لأمزجتهم ومحاولة لإبراز نواياهم وخبايا مخيلاتهم، وحكايات كثيرة تقاطعت على عتبة الرواية كمدخل غريب للدخول في لب الموضوع.
لكنّ الذي يحدث فعلا ـ كما حدث معي – هو أن قارئ رواية «وحي آلة كاتبة» للمغربي يوسف كرماح الصادرة عن المركز الثقافي العربي (المغرب ـ بيروت) لن يتأفّف أبدا وهو يتوغّل في كل ذلك التنظير المكثّف حول الكتابة، كونه نُسِجَ وفق خطّة غاية في الذكاء، ليبقيه عالقا بين ما يطرحه الكاتب من أفكار وما يرويه من قصص عن عظماء الرواية وما يقترحه من عتبات لنصوص روائية ناجحة، وهو يتقمّص بطله الروائي «فريد»، الذي أسرته آلة كاتبة قديمة من نوع أوليفيتي ـ تلك التي تعرف باسم داكتيلو- التي قذفت به إلى أقدار الكتابة دون أن يعرف تماما كيف يبدأ روايته العظيمة! مدخل مغاير تماما عمّا ألفناه حتى في أشهر الروايات.
يأخذنا في متاهة ماتعة ولذيذة، وهو يفرد آراءه حول أنواع الكتابة بين النفعي والجشِعِ والخلاّق، ويتركنا في مواجهة من نحن على دراية جيدة بهم من الكُتّاب والأدباء، وقد تملكتنا الدهشة من دقة تحليله، وتطابقه مع معطيات الواقع بحذافيرها.
يثيرنا ذلك الطرّح الغريب في مدخل رواية لم تبدأ، ولكنه لن يشعرنا بالملل بقدر ما يشدّنا، ونحن نتقصّى معه قصصه التي يرميها القصّة تلو الأخرى كطُعم مضمون، لتلقي ما هو أجمل في استعراض جميل جدا لقدرة القراءة على إنتاج النصوص، يفعل ذلك بثقة عالية تجعلنا نتمسك بخيط السرد ونمضي خلفه بشوق لنكتشف ماذا ينتظرنا. يعمد الكاتب إلى إبهارنا بقصة فيكتور هوغو «آخر يوم لمحكوم بالإعدام» التي أنجزها في يوم وليلة، وبقصةّ كافكا الذي أنجز روايته «المحاكمة» في يوم واحد، وطه حسين الذي أنجز «الأيام» في أسبوع واحد. ولا أدري هل يريد إبهارنا بخلفيته الثقافية الشاسعة، أم بشيء آخر مرتبط بالقدرة الخارقة لبعض الكتّاب لإنجاز أعمالهم الأدبية في أوقات قياسية؟ في كل الحالات لقد تحقّق له ما يريد، وتمكّن من التوغل في أدمغتنا وبسط سلطته كسارد، بل أبعد من ذلك، لقد أفصح عمّا يجول في خاطر كل كاتب شاب مقبل على الكتابة، وكل كاتب واقع بين مخالبها دون خلاص، فيعيش مشدودا بين لعناتها المتناقضة، رغم محاولاته الكثيرة لفهم ما يحدث له عن طريق طرح أسئلة فلسفية عميقة عن أولئك الذين ابتلعهم الهامش الكبير للحياة، وعن المجد اللامفهوم الذي يطال البعض ويتحاشى البعض الآخر.
نقرأ إذن «وحي آلة كاتبة» كما لو أننا نقرأ عملا يتمم مقولات محمد زفزاف أو محمد شكري، فمجتمع القاع نفسه يحاصر الكاتب وأبطاله، ولا خلاص له غير الخروج عبر أنفاق الكتب إلى عوالم تشرق فيها الشمس وتُرى فيها النهايات.
يبدو لي أن هذا الدخول هو الدخول الفعلي والحقيقي ليوسف كرماح إلى عالم الأدب، بعد أن كتب القصة القصيرة التي ظلّت حبيسة الحيّز المحلي. فهذا النص الروائي الطويل سينقل الكاتب حسب توقعاته إلى دائرة الضوء دون أدنى شك (هناك علامات تهمس لي بالمجد)، بل إنني أرى بُعدا آخر للرواية هو بالضبط ذلك البعد الذي يختص به الكُتّاب المغاربة ويتفوّقون فيه ببراعة على مستويات جماليات اللغة والسرد معا إضافة إلى فرادة الجرأة في القول.
نقرأ إذن «وحي آلة كاتبة» كما لو أننا نقرأ عملا يتمم مقولات محمد زفزاف أو محمد شكري، فمجتمع القاع نفسه يحاصر الكاتب وأبطاله، ولا خلاص له غير الخروج عبر أنفاق الكتب إلى عوالم تشرق فيها الشمس وتُرى فيها النهايات. يستحضر كرماح كل كتّابه الذين مارسوا غوايتهم عليه، مثل تلميذ مجتهد حفظ الدّرس جيدا، فلا يعطي لنا فرصة لتشبيهه بجيروم دايفيد سالينجر، الذي أفرغ حمولة غضبه كلها في روايته الوحيدة الساخطة «الحارس في حقل الشوفان»، فهو يذكره مع من ذكرهم كإحدى البصمات التي انطبعت على ملكته الإبداعية، ومع هذا لا يمكننا تخطّي حالة البوح بوجه شبه خفي، هو السخط على الزيف، والتفاهة، والبلاهة التي تحكم العالم اليوم. بإمكان أي قارئ اليوم أن يجد هذا «المشترك العالمي» بين المجتمعات التي ترزح تحت نير الأنظمة الجشعة. هكذا يفسّر كرماح بشكل ما سر إنتاج نوعية الإنسان المهزوم، المنغمس في الملذّات العابرة، لأسباب يمكن اختصارها بالفقر والجهل والزيف، ثلاثية الوصفة العجيبة، أو الخلطة السحرية التي تهوي بالحضارات العظيمة إلى القاع وتحيلها غبارا. لا يترك الكاتب في الحقيقة زاوية من زوايا الحياة إلا وخاض فيها، وهو حتما كأي كاتب يروي محنته اليومية في مجتمع لا يستوعب معنى أن يكون المرء كاتبا. يختصر المرارات التي تحدث له بلغة عالية الوتيرة، يذكر كل تلك البشاعات بلا هوادة ويصفع بها وجوهنا. ثمّ بالكاد حين نستوعب الفرق بين الصوت السّردي وصوت المؤلّف، ونعتقد أن الكاتب فقد بوصلته وتاه بعد فصل نظري طويل عن قصّته، حتى نُصفع بالصفعة الثانية، بصوت سردي ثانٍ، ينقلنا إلى ما قد أسميه «متخيّل المختيّل» لندخل قصة أخرى، أعتبرها الشرح الكافي الذي تطلّبه ذلك «الفصل النظري» التوطيئي لروايته. نعبر إلى فضاء «كواليس الشيطان» وندخل فصولها وأبوابها التسعة والعشرين، مستسلمين لخدر جميل ولذيذ قبل أن نبلغ استراحة المحارب وقد أنهى معركته وأنجز روايته. نستحضر هنا ما قاله بروست عن أنّ «الكتاب نتاج نفسٍ أخرى غير تلك التي نُظهِرُها، في عاداتنا، في المجتمع، وفي رذائلنا» حتى لا نبحث كثيرا في سرّ الأنا التي اعتمدها كرماح، هل هي «أنا اجتماعية ـ يومية» أو «أنا إبداعية» ففي كل الحالات لقد نجح في حبكته ولغته ومجازه الخاص، وأثبت لنا كما ورد في آخر سطر في روايته أننا أمام كاتب عظيم، «أنا أعظم كاتب لم تكتشفوه بعد».
لقد صدق في نبوءاته التي بثها عبر نصه منذ بدايته إلى نهايته، كما صدق في اختصار منجزه بكلمات قليلة، «هذه الرواية صادقة، تعرّي الكثير من القضايا التي نعيشها. هذه وظيفة الكتابة. قول شيء عادي بصيغة غير عادية. وعندما نكتب بصدق فإننا نستطيع أن ننفذ إلى أعماق الآخرين». ونحن أمام هذا النوع من الأعمال نعجز تماما عن الكتابة عنه أو تقديمه لأنّه يقدّم نفسه بفصاحة تفوق قدراتنا التعبيرية، وهذا ما حدث لي بالضبط وأنا أحاول تقديم قراءتي، فالرواية مبهرة، وتخصنا جميعا كمشتغلين في حقل الثقافة، والخوض في غمار الكتابة دون معرفة العواقب في أوساط لا يعنيها أي مجهود نقوم به.
صحيح أن أوضاع الكُتَّاب تتفاوت من بلد لآخر، ولكن الغالب على كُتّاب العالم العربي أنهم يشتركون في المعاناة نفسها، إن لم تكن معاناة التهميش والتكفير والتهجير والنفي، فثمة قسوة التمييز بينهم، وتقليل فرصهم في نيل حياة أفضل وفق معايير غير بريئة. كل شيء هنا بالتفصيل غير الممل، في هذه الرواية التي جعلتني لأول مرة أفهم لماذا يبلغ المرء مرحلة عمرية معينة من ابتلاع اليأس والخيبة، فيطلق العنان للسانه فيشتم ويسبُّ وينتقي بدقة، الكريه من الكلام ويرشُّ به أدبه. إنّها مرحلة اللاتحمُّل، أو مرحلة قمة الخسارات، بعد عمر طويل من العفّة والنزاهة والأحلام الطيبة للجميع، والبذل والاجتهاد لتقديم الأفضل، والتي كلها تُكافَأ بالنكران من الأوساط الآسنة التي وجدنا فيها.
بودي أن أقول الكثير عن هذه الرواية، لكني على قناعة أنها أجمل من أي كلام سيقال عنها، فكل صفحة فيها قيمة ثمينة للرواية العربية وضربة قوية للحياة الوقحة التي أذلّت الكُتّاب العرب.
شاعرة وإعلامية من البحرين
التحية و المجد للكاتبة الرشيقة الفاتنة فتنة اللغة الجميلة و الأدب المبدع.
قراءة عميقة زاوجت بين المتعة والفائدة ، ومحاولة ناجحة لتقريب رواية ” وحي آلة كاتبة ” من القارئ بتسليط الضوء على تقنياتها وتيماتها وأبعادها الفنية والدلالية. …
أشكرك كثيرا دكتورة بروين حبيب على هذا المقال اقتنيت الرواية ووجدت فيها ما هز وجداني كله