كأي جثة مباركة لسامية العطعوط والاقتراب من الأدب السيريالي

من المعروف أن السيريالية في الأدب عامة، وفي القصة على وجه الخصوص نشأت على أنقاض الدادائية التي أسسها الشاعر تريستان تزارا وانضم إليها لاحقا أندريه بريتون ورينيه شار ولويس أراغون وبول إيلوار والفنان بابلو بيكاسو والإسباني سلفادور دالي وآخرون.. أما لفظة السيريالية فقد عرفت بها الحركة بدءا من عام 1924 عندما استبدلت مجلة «أدب» اسمها لتصبح الثورة السيريالية. ويهتم أدبُ الحركة السيريالية بالواقع، غير أنه لا يسعى لتزويق هذا الواقع، وإضفاء السحر عليه، وإنما يركز تركيزا شديدا على الجوانب المشوَّهة منه، بغية انتقاده، والارتقاء به لواقع يخلو من التشتت، والتشوهات، لذا يتوسل السيرياليون لهذا الهدف وسائل شتى من الفن، منها ما يقوم على ربط الإبداع باللاشعور، ومنها ما يقوم على تحرير الخيال من أيّ ارتباط بالعقل الواعي، والابتعاد عن التسلسل الزمني في رواية الوقائع السرْدية، والتخلي عن المنطق في حبك الحكاية، والاستسلام لمنطق الحلم، والأساطير، بدلا من ذلك، واستبعاد ما يوحي بالترابط بين المتتاليات، علاوة على اهتمامهم بالجنون، لأن النفس تحت تأثيره – في رأيهم – تتحرَّرُ من سلطان العالم الخارجي، وهذا ما يتراءى لنا على الأقل في أعمال سلفادور دالي، ولوحات بيكاسو في مرحلتهِ السيرْيالية.

في قصة (خفة حاو) يقف القارئ إزاء نموذج من هذا الأدب السيريالي الذي يقوم على تصوير الواقع، وانتقاده، تصويرا يعتمد التشويه، والنفاذ من القشرة إلى ما تحتها.

ونستطيع الوقوف على أمثلة كثيرة، وواضحة، في الأشعار، والقصص، واللوحات، التي أبدعها هذا التيار الأدبي الفني. فالغموض، واللاترابط والكوابيس، والغرائبية التي تصل حد العجائب، والسخرية القائمة على تصوير الفاجع في المظهرالكوميدي الذي يستثير الضحك.. جلها سماتٌ لا يخلو منها أثر من آثار هذه المدرسة الأدبية (يُنظر هنادي سعادة: الواقع والمتخيل) ومن دراستنا السابقة لمجموعة سامية العطعوط (بيكاسو كافيه 2012) لاحظنا في بعض قصصها هذا التوجُّه، ومنها قصة بيكاسو كافيه، وقصة (في المقهى ذاته) وقصة (المقهى الخشبي) وقصة (كافكا في المدينة) وغيْرها.. مما لا ضرورة لذكره. وتبدي الكاتبة في مجموعتها الجديدة «كجثة مباركة»، الأهلية، 2018 حرْصًا على هذا الاتجاه، بدليل أنها في القسم الذي تطلق عليه عنوان (كراسة الحرب) لا تفتأ تلقي بالضوء على رؤيتها المشوِّهة للواقع السائد المتـشح بلهيب الحروب الأهلية المستعرة، والعمليات الإرهابية التي تحيل هذا الواقع إلى واقع مفخخ، كسيارة يقودها انتحاري في هذه المدينة أو تلك، ما تلبث حتى تنفجر مسفرة عن عشرات الضحايا بين قتيل وجريح.
خِفَّةُ حاوٍ
في قصة (خفة حاو) يقف القارئ إزاء نموذج من هذا الأدب السيريالي الذي يقوم على تصوير الواقع، وانتقاده، تصويرا يعتمد التشويه، والنفاذ من القشرة إلى ما تحت القشرة، فالعبارة الأولى فيها تقول «صحونا فجأة على رائحة الموت». تليها سلسلة من المشاهد التي ترسم فيها العطعوط ملامح الحارس العجوز بمعطفه الطويل، والسيجارة، وعود الثقاب. أما الحارة التي يلقي عليها بنظره فكأيِّ حارة أخرى: بيوت متراصة، وأبواب خشبية موصدة بمزاليج سود ضخمة، وفي هذه الإشارة مدلولٌ غير مباشرة لدالٍّ يصدر من الراوي صدورا عفويا بلا وعي، يعبر عما يعيش فيه سكان هذه الحارة من رعب. تساند هذه الإشارة ذكر الخيالات التي تتراكض في العتمة، وشعور الحارس العجوز بأن قدميه مكبلتان في الأرض بسلاسل حديدية تمنعه من التصدي لهاتيك الأشباح الضَخْمة التي تتحرك بحرية في الظلمة، أو على الأقل التحرك نحوها، أو الاحتجاج بأعلى صوته، فهو حارسٌ، ولا حارس، في الوقت ذاته، بل يحتاج لمن يحرسُه. وفي هذا مفارقة تذكرنا بالمفارقات التي يغرق فيها السرد السيريالي. وذلك – بطبيعة الحال- مشهدٌ آخر يعبر عن واقع مسكون برعب يصل بنا إلى حد العَجائب. وما هي إلا ثوان معدودات لا تُحسبُ في عمر الزمان حتى يكتشف الراوي وجود أشخاص عمالقة، (شبيحة) يقتحمون البيوت الموصدة بالمزاليج الضخمة، ويخطفون الآمنين، ويذهبون بهم إلى حيث الساحة، فتجزُّ أعناقهم، ويعلقون في الريح السامة.
ويمكن القول إن ما سبق هو النصف الأول للقصة المرعبة، والحكاية المُلْبسَة، التي تدور متوالياتها في حارة ربما كفل لها الزمن أن تغدو ضحية حرب لا ناقة لها فيها، ولا جمل. وفي إيحاء باستبعاد الترابط بين النصف الأول للقصة والثاني نجد الكاتبة سامية العطعوط تضع القارئ في سياق آخرَ مُخْتلف، وإذا بالراوي يشتمُّ رائحة الرعب فيما هو مستلقٍ على سريره، مهدود الجسم من العياء، وفجأة يتمخَّضُ هذا (المرعوب) من رائحة الخوف عن شخص آخر بصفات تدنو به من درجة (المَسْخ) أو الشبيح؛ فهو كث الشعر واللحية، منتفخ الوجه، دميم، تبرز منه انبعاجات شتى كفقاقيع لحمية، وعينان حمراوان، تقدحان شَرَرًا». وهذا النموذج السيريالي للشبيح يغادر البيت كمن يقوم بمهمة عُهد بها إليه، ألا وهي نشر الرعب بين الآمنين، على وقع الصراخ المدوي الذي يشق الليل بسكاكين حادة. وتواصل الكاتبة لملمة فتات المشهد: صرخات موجعة، وتأوُّهات تعتصِرُ القلب. حتى الرغبة في الاستيقاظ تجافي هذا الراوي، فلمَ يستيقظ من منامهِ إذا كانت عيناه ستنفتحان على هذا المشْهَدُ المرعِب.

تلجأ سامية العطعوط إلى الكوابيس، وتستبعد الروابط التي تصل بين المتواليات السردية، وتطلق لخيالها العنان، فتصور الواقع تصويرًا تصل فيه بنا إلى تخوم الغرائب.

على أن القصة تنتهي- كما هي العادة – في الأدب السيريالي، بمفارقة أخرى تمثل تناقضًا صارخًا، مع ما يتوقعه القارئ المتلقي. فهذا الشخص، الذي يؤكد استحالة الاستيقاظ في هذا الجو المرعِب، يستيقظ أخيرًا، ويغادر سريره، ليقع بصره على الحارس، وهو يدخن سجائره، وعلى بعد أمتار منه، أي في الساحة، ثمة سبْعَ جثث معلقة على مقصلة كبيرة تضربها الريح والأتربة. وفي هذا المشهد يدرك الراوي حقيقة أنَّ كابوسًا ثقيلا مروّعًا هو الواقع، فهل هو ذلك العملاق (المسخ) الذي تمخَّضَ عنه، وغادره إلى حيث يرتكب هاتيك الموبقات؟ أم أنه هو نفسه من عاش في هذا المشهد من قبل، وارتكب هذه المجزرة بيده؟
وهذه النهاية، التي لا يتوقعُها القارئ، ترْمي لإدانة هذه الوقائع، على الرغم من أنَّ حاضرنا يصطبغُ بها، وبالعنف المستشري، والإرهاب المتسلط، بسبب الصراعات التي لا مُسوغ لها، ولا تبدو في الأفق بارقة أملٍ تعِدُ بأنها ستنتهي، أو تتوقَّف، أو تتراجع حدَّتُها، على الأقل، فها هي ذي كراسة الحرب، على الرغم من مرور السنوات لم يزل قراؤها في الصفحة الأولى. وهكذا، يتضح أن الكاتبة سامية العطعوط تلجأ إلى الكوابيس، وتستبعد الروابط التي تصل بين المتواليات السردية، وتطلق لخيالها العنان، فتصور الواقع تصويرًا تصل فيه بنا إلى تخوم الغرائب، بل العجائب، مؤكدة بذلك أن لها بصمة خاصَّة في كتابة القصة القصيرة تميُّزُها عن الآخرين.
ومما يذكر أن لسامية العطعوط عددًا من المجموعات القصصية صدرت على التوالي: «جدران تمتصُّ الصوت» 1986 و«طقوس أنثى» 1990 و«طربوش موزارت» 1998 و«سروال الفتنة» 2002 و«قارعُ الأجراس» 2008 و«بيكاسو كافيه» 2012.

٭ ناقد وأكاديمي من الأردن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابوتاج الحكمة.شاعرعربي من سورية.باريس:

    مرحبا بأستاذي وصديقي العزيز: د.ابراهيم الخليل، المهذب المتواضع صاحب العلم الجم ،كم أتذكر استقبالاتكم الكريمة لي بمكتبكم بالجامعة الأردنية حماكم الله، عاشت الأردن وفلسطين من ربوع أقاليم الشام الكبرى الساطعة مجدا وازدهارا على التاريخ، أصافحكم بحرارة:
    من فكر( ابراهيم آل خليل)
    إشراق آداب لكل جميل!!!
    عبدالله النجار
    [email protected]

إشترك في قائمتنا البريدية