كرة القدم… تاريخ من السلطوية والناس العاديين والمرح

ما تزال لعبة كرة القدم تحصد كل يوم آلاف المتابعين الجدد، إذ بات أبطال هذه اللعبة مثل رونالدو وميسي، يحتلون صفحات التواصل والشاشات، وحتى جزءا من منازلنا. فبعد أن كانت صور الأبطال الثوريين مثل تشي غيفارا أو فانون، هي التي تحتل جزءا من جدران منازل أجيال من الثوريين والسياسيين في الشرق الأوسط، فإذا بصور رونالدو وميسي تعبر كل منازل هذا العالم الأوسطي، بوصفهم أبطال هذا العالم، وأقرب ما يكونون لشخصيات مقدسة.
الطريف في هذا التحول، أنه غالبا ما بات يرتبط كذلك بحالة من البحث عن المتعة والمرح، ففي الشرق الأوسط مثلا، المثقل بالهموم والصراعات، نرى الملايين من الشباب والصغار والنساء، ممن باتوا يرون في كرة القدم ملاذا للمرح والفرح، بعيدا عن شاشات الأخبار اليومية.
وهذا التحول في مشهد كرة القدم في منطقة الشرق الأوسط والعالم عموما، هو ما دفع ببعض الأنثروبولوجيين والمؤرخين في السنوات الأخيرة، إلى بذل مزيد من الجهود لكتابة تاريخ هذه اللعبة، وما تفعله اليوم في حياتنا على صعيد تشكيل الهويات. لكن على الرغم من هذا الغنى في الكتابات الغربية عن كرة القدم وتاريخها، ما تزال الجهود التاريخية والسوسيولوجية العربية فقيرة في هذا الجانب، إذ نادرا ما نعثر على أطروحة دكتوراه مثلا عن تاريخ أحد نوادي كرة القدم، أو على سيرة لاعب كرة قدم محلي. في المقابل لا تتوقف الكتابات الغربية في هذا الجانب، وأشير هنا مثلا إلى مؤسسة (أبحاث كرة القدم في أوروبا الموسعة) التي أصدرت إلى الآن 14 كتابا حول ذاكرة كرة القدم في أوروبا، وقصة الإلتراس في بولندا، ودور كرة القدم في حياة المهاجرين الأتراك في ألمانيا. وربما نشير أيضا إلى كتاب الأنثروبولوجي الأمريكي سكوت أتران «صناعة العدو»، الذي قدّم فيه قراءة فريدة حول علاقة الجهاديين بكرة القدم، وكيف تحولت ملاعب كرة القدم في أوروبا والشرق الأوسط، إلى أماكن للتجنيد بدلا من الجوامع والمراكز الدينية التقليدية.

تاريخ شعبي:

ويعد كتاب الصحافي الفرنسي ميكائيل كوريا «تاريخ شعبي لكرة القدم» ترجمة محمد عبد الفتاح السباعي، مرايا للنشر، واحدا من الكتب الممتعة في هذا الجانب. وهو كتاب يعيد فيه كاتبه إعادة قراءة تاريخ هذه اللعبة وعلاقتها بالسلطة والمقاومة والمرح. يعتقد كوريا أن ثمة توترا متصاعدا بين عالمين لكرة القدم، الأول ينحني لمنطق التاجر السلطوي، أما الثاني فهو العالم الذي يريد التحرر من العالم الأول وأن يعود بكرة القدم إلى جذورها. واصل الحكاية هو أن كرة القدم ولدت في منتصف القرن التاسع عشر في خضم محاولة الطبقات العليا البريطانية تهذيب الشباب البورجوازي وبث روح المبادرة والمنافسة، لكن سرعان ما غزت كرة القدم الطبقات الشعبية، وحرص أرباب العمل البريطانيون، لاسيما من ذوي السلطة الأبوية، على نشرها بعدما وجدوا فيها وسيلة تعلم الطبقة العاملة احترام السلطة وتقسيم العمل، فانتشرت الكرة انتشار النار في الهشيم. في عام 1918، كتب المفكر الماركسي انطونيو غرامشي محللا كرة القدم باعتبارها «عنصرا كاشفا عن الهيمنة الثقافية التي غزتها البورجوازية الرأسمالية». كذلك وجد رجال الدين البريطانيين في كرة القدم أداة مثالية يمكنها الحفاظ على الشباب العامل ذي الميول الانحرافية من التدني الأخلاقي. ومع تعميم الاسبوع الانكليزي في المصانع ، أنشا رجال الدين فرقا محلية لكرة القدم كانت تجتذب للمروج الخضراء في بيوت القساوسة المزيد من العمال بمرور الوقت. كما ساهمت عوامل أخرى في نشر كرة القدم في أوساط الطبقة العاملة، حيث كثرت الحانات في الأحياء الشعبية في المدن الصناعية، وأصبحت بؤرة لتجمعات فرق كرة القدم، ما عزز من أواصر الجيرة والتضمان في ما بين الطبقة العاملة، وتحولت تلك الحانات لما يشبه غرف خلع الملابس، حيث يتم فيها الاستعداد للمباريات والاحتفال بالانتصارات والبكاء على الهزائم، وكذلك لتناول الوجبات قبل وبعد المباريات. وأصبح مع كل نهائي كأس إنكلترا، بمقدور آلاف العمال النزول للعاصمة. ينقل لنا أحد التقارير الصحافية التي كتبت عن مباراة نهائية بين مانشستر يونايتد وبريستول سيتي المشهد التالي: «منذ ساعات الصباح الأولى وعلى مدار الليل بأكمله، قطارات مكتظة بالركاب متجهة جنوبا وقد استعارت الخطوط الحديدية الكبرى كي تفرغ حمولتها من العمال القادمين من يوركشاير ومن لانكشاير.. انطلقوا في شوارع المدينة صاخبين ومنتصرين.. كانوا يرتدون قبعات رمادية من قماش تحمل ألوان فريقهم. كانوا رجالا من ذوي الأحجام الصغيرة بوجوه عادية».
إلى جانب هذا التطور، ساهم انتشار الامبراطورية البريطانية في العالم، في تدويل هذه اللعبة، إذ قرر الاتحاد الإنكليزي إرسال عدة فرق في جولات حول العالم من أجل الترويج لمزايا كرة القدم، ولذلك لعب أحد الفرق الإنكليزية 33 مباراة في جنوب افريقيا، وغدا لعب كرة القدم مرتبطا بأسلوب الحياة الإنكليزية، وأصبح علامة على التميز الاجتماعي وتأكيد الحداثة الصناعية. وهذا ما نراه في افريقيا، التي سرعان ما نظر إلى كرة القدم على أنها اداة حضارية. وكذلك الأمر في إيطاليا، ففي مدينة تورينو تأسس نادي إنترناسيونال فوتبول عام 1891 على يد تاجر إيطالي عمل لفترة في مصانع النسيج في بريطانيا.

الحرب العالمية الأولى وكرة القدم:

التطور الأهم جاء بعد الحرب العالمية الأولى، ففي إحدى خطبه أعلن موسوليني أمام حشد منضبط «أنتم أيها الرياضيون الطليان، عليكم واجبات خاصة.. يجب أن تكون عنيدا وشهما وجريئا. تذكر أنه عندما تشارك في مسابقة خارج حدودك، فإن عضلاتك، خاصة روحك، تحمل شرف ومكانة الرياضة الوطنية». جعل موسوليني الرياضة سلاحا سياسيا، كما لم يفعل أي زعيم آخر من قبل. وبمجرد إرساء نظامه الديكتاتوري، تم تطهير المؤسسات الرياضية من أي وجود شيوعي أو كاثوليكي ومن ثم أصبحت خاضعة للسلطات الفاشية. وبينما أخذت كرة القدم تزدهر بين الطبقات العاملة الايطالية، كان لدى موسوليني أكثر من 2000 ملعب تم بناؤه في نهاية العشرينيات من القرن الماضي. وأصبحت هذه الساحات الضخمة، في نظر السلطات مساحات مواتية للدعاية الجماهيرية. كما ساعد تطور الصحافة المكتوبة والراديو في تحويل كرة القدم إلى ثقافة جماهيرية، وأصبح لاعبو المنتخب الوطني مثل جيامبيرو كومبي كجنود لإيطاليا الجديدة. في المقابل أخذت الدعاية السوفييتية تدعو إلى ضرورة بذل المزيد من الطاقة، حتى يصبح الرياضيون السوفييت أفضل الرياضيين في العالم، بحيث يصبح الاتحاد السوفييتي في السنوات المقبلة، بلد الأرقام القياسية العالمية، إلا أنها أعادت لاحقاً النظر في هذه الرؤية لصالح فكرة تعتقد بأن ملاعب كرة القدم قد أصبحت مصدراً يثير استياء السلطات الشيوعية.

هتلر وكرة القدم:

كان هتلر يكره كرة القدم، ويفضل الملاكمة، لكن شعبية كرة القدم لدى الألمان كانت كبيرة لدرجة أجبرته على استيعابها في العقيدة الاشتراكية القومية. وقد تم التخلي عن وضعية اللاعب المحترف لصالح نقاء الهوية. وفي أعقاب احتلال جيوش المحور لأوكرانيا، حلت جميع فرق كرة القدم الأوكرانية، مثل دينامو كييف، وهنا ظهرت كرة القدم كمدخل لمقاومة النازيين. ففي النرويج، أصبحت المقاطعة الرياضية شائعة في عالم كرة القدم من أجل تحدي سيطرة سلطات الاحتلال على اللعبة. في المقابل قام اتحاد كرة القدم الهولندي عام 1941 بحظر اللاعبين اليهود من الساحات الرياضية. ومما يذكره أحد مشجعي فريق أياكس أمستردام الهولندي «كان والدي اليهودي من أكبر المؤيدين لأياكس وكنا نذهب إلى الملعب كل يوم أحد، وبعد منع اليهود ذهبت الى المباريات من دونه. كان الأمر بشعا».
سقراط لاعب البرازيل المعارض:
منذ الستينيات عرفت البرازيل انقلابا عسكريا أطاح بحكم الجمهورية، وحكمت البرازيل بقبضة من حديد على يد مجموعة من الجنرالات، الذين استخدموا فزاعة التهديد الشيوعي في قارة أمريكا الجنوبية. وهنا ظهر دور لاعب الوسط سقراط الملقب بـ»الطبيب»، والمعجب بفرانز كافكا وغارسيا ماركيز، كأشد المعارضين للنظام. وانضم سقراط إلى حزب العمال فور تأسيسه عام 1980. يروي سقراط في مذكراته كيف أنه رأى والده يحرق الكتب عندما وقع الانقلاب العسكري في 31 مارس/آذار 1964. ومع الثمانينيات بدا أن ملاعب كرة القدم أصبحت بمثابة أماكن الاجتماعات اللانهائية في البرازيل، التي يدور فيها نقاش حول الفلسفة والسياسة والأدب وتبادل الكتب، وأصبح اللاعبون البرازيليون يسعون إلى فكرة أن الإبداع الرياضي على أرض الملعب قد يمكن من هز النظام السياسي المغلق بشكل كامل. أصبحت كرة القدم هي الصوت الشعبي من حركة المعارضة، وباتت تحظى بدعم المثقفين والفنانين، ما خلق جسرا بين النخب الاحتجاجية والمجتمع البرازيلي.
أ
نبياء الزمن الجديد:

في عام 1971، كان الفتى مارادونا بالكاد يبلغ من العمر 11 عاما، حينما اكتشفه أحد الكشافين، واخذت الحشود تأتي للاستمتاع بالمراوغات المذهلة لطفل الشوارع، ولأن المفتونين بهذه الظاهرة الكروية أصبحوا على نطاق واسع، فإن التلفزيون نفسه جاء لمقابلة الطفل المعجزة القادم من الأحياء المعدمة. أخذ مارادونا يتنفس الحرية في بلد سحقته ديكتاتورية عسكرية بقيادة خورخي فيديلا. في عام 1986، راوغ مارادونا من منتصف الملعب نصف دستة من اللاعبين الإنكليز، كما سجل هدفا آخر بيده، ويومها غدا رمزا جديدا للتعبير عن البهجة في حياة مئات الآلاف من المحرومين، وبات بمثابة الملهم لأجيال واسعة.
اللافت أنه في عام 1994 لم يتأثر الحب الشعبي الجارف لمارادونا، ففي أعقاب تحليله الإيجابي والإطاحة به من كأس العالم، بدا الحزن شديدا، وكان هناك كم هائل من الجنون في شوارع بوينس آيرس، وفي الحانات والمطاعم. ظل المشجعون وفقا تعليق أحد المشجعين يعتقدون، أن ما فعله مارادونا في حياتهم لا يختلف كثيرا عما فعله المسيح. كلاهما صنع المعجزات، وكل ما في الأمر أن معجزات مارادونا موثقة. في الثمانينيات لعب مارادونا في فريق نابولي الإيطالي، ونجح في تحويله إلى فريق عالمي، وعلى أثر ذلك، غنى له الكثير من الإيطاليين، ومن بينها اغنية تقول كلماتها»هل تعرفين لماذا قلبي ينبض يا أمي؟ لقد رأيت مارادونا! يا أمي، أنا أعيش قصة حب». ولعل الشيء ذاته يمكن قوله اليوم عن لاعبين كثر وآخرهم لامين يامال وبيلنغهام وغيرهما، الذين باتوا مع كأس أوروبا لكرة القدم المقامة حالياً، يجبروننا على أن نعيش في كل مباراة قصص حب عديدة، تجاه لاعبي كرة القدم، واللعبة عموما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية