خرجت قبل أيام لأتجول في شوارع بلدتي، فوجدتها مكتظة بالناس، يهتفون، يصفرون، يصفقون، يرددون أغاني النصر، يرقصون، يتدافعون في فرح، والسيارات تطلق منبهاتها، ليبلغ الهرج والمرج مداه، والمناسبة انتصار الفريق الوطني المغربي على الفريق البرتغالي.
شيء عجيب وغريب أن تخرج كل هذه الأعداد محتفلة، ومن العجيب الغريب أن سربا من النوارس البيضاء ملأت السماء في هذا اليوم بالذات، وكأنها تشاركنا الفرحة التي عمت الصغار والكبار القاطنين والمهاجرين من السكان.
لقد توحد الخطاب على مواقع التواصل الاجتماعي، فصار كله تبريكات وتهان متبادلة بجمل جميلة وبرسوم معبرة وصور مخلدة للحدث. إنها كرة القدم تحرك الساكن، وتشعل الخامد، وتعيد روعة الانتماء والهوية والوطنية بشكل رائع. الإنسان العادي ينبهر كغيره من الناس فيحتفل ويهتف ولا يناقش الأسرار والبواعث. أما الباحث المتأمل فإنه يقرأ الظواهر كما يقرأ الكتب. يبحث عن شيء يراه سرا وراء الظاهرة، يبحث عن الحيثيات والأسباب والمنابع، ولا يهنأ له بال حتى يقف على أمور وتبريرات تقنعه، وتصير نتائج بحثه أساسا لبحوث أخرى.
كرة القدم باختصار، بالون منفوخ محشو في جلد مكور، يتدحرج بفعل أقدام اللاعبين المتعاقدين على التنافس من أجل إبراز الناجح في إيصال هذه الكرة إلى مرمى الآخر، وهذا اختصار لقانون هذه اللعبة وما يجري بها من أفعال وحركات، فلماذا تثير كل هذا الزخم من الحماس والتأجج الشعوري بين أنصار كل فريق.
والباحث عن الأسرار يصادف كثيرا من المصطلحات التي قد تهديه إلى المكامن والبواعث التي تدفع إلى الاحتفاء بالانتصار والحزن والضجر عند الإخفاق. من هذه المصطلحات مصطلح الهوية باعتبارها مجموع السمات والصفات التي تميز شعبا عن شعب، ولن تجد شعبا مجردا من هوية، تحدد خصائصه التاريخية والاجتماعية وغيرها، وهي الوعاء الشامل لأفراد هذا الشعب فيصير بمثابة الجسد الواحد، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا” فالهوية تشكل تضاريس المحبة والمواءمة ممتدة في النفوس.
ومن شأن الاعتزاز بالهوية الاحتفاء بكل نصر وذم كل هزيمة، وفي هذا سر الصراع بين الأمم من أجل التفوق والتميز. وهنا سر الحضارات المختلفة والعناصر التي أنتجتها الشعوب المختلفة بذاتية خاصة تحاول أن ترتقي وتسمو مقارنة بغيرها. ومن هذه المصطلحات إثبات الذات، فكل شعب عبر أفراده يحاول أن يثبت ذاته في كثير من المجالات، ومنها مجال الرياضة. فحين يتعلق الأمر بمباريات دولية فإن كل دولة بهويتها الثقافية والدينية والتاريخية والحضارية تحاول أن تقول لنفسها ولغيرها بأنها المتميزة القوية والقادرة على نجاح رمزي يعزز وجودها وذاتيتها.
الكرة رغم صغرها وضآلة بنيتها لعبة عمق رمزي موغل في ذواتنا، وله ما يجعله يوحد النفوس والصفوف والمشاعر تعبيرا عن المواطنة والوطنية والانتماء… وتلك بعض أسرار هذه الضجة التي أحدثتها كرة القدم التي أيقظت فينا شعورا نبيلا مفاده أننا فرد واحد، ما يسعده يسعدنا وما يشقيه يشقينا.
من حق العرب، بل من الواجب أن يفتخروا بهذا الإنجاز العظيم الذي سيذيب بشكل ما عقدة العجز والنقص في تحقيق ما يحققه الغير بالعزيمة والإصرار.
جميل أن يصير ضمير المتكلم ضميرا يحيل على كل العرب، فبين الفينة والفينة يتحدث شخص ويقول نحن العرب… تمكننا نحن العرب… استمتعنا نحن العرب… وأخيرا نصل نحن العرب. انطلاقا من الحيثيات السابقة، لا ينبغي الاستهانة بأي شيء صغير فقد يرمز إلى شيء عظيم قد لا نعرفه إلا بعد تفكير عميق.