كركوك وأزمة التمثيل السني!

كان يمكن أن يكون خبر تشكيل حكومة محافظة كركوك المحلية، خبرا يشبه أخبار تشكيل مجالس المحافظات في المحافظات العراقية الأخرى، لكن الحقيقة أن انتخابات مجالس المحافظات قد جرت في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2023، وأعلنت نتائجها الأولية في اليوم التالي، وأن محافظة كركوك تأخر تشكيل الحكومة المحلية ما يقرب من 8 أشهر كاملة، وأن «الصفقة» التي أنهت هذا التأخير تسببت في أزمة سياسية ومجتمعية حقيقية في هذه المحافظة المضطربة أصلا.
تشهد كركوك صراعا قوميا حادا بين مكوناتها الرئيسية الثلاثة: التركمان، العرب والكرد، بعد أن فشل النظام السياسي بعد 2003 في حل هذا الصراع، بل تفاقمت حدته بسبب السياسات التي اعتمدت في سياق اختلال في علاقات القوة بين هذه المكونات، والذي أفرزته انتخابات كركوك المحلية عام 2005، فقد جرت هذه الانتخابات في سياق مقاطعة القوى السنية (جرت الانتخابات بالتوازي مع انتخابات الجمعية الوطنية على مستوى العراق ككل). وقد أسفرت عن فوز قائمة «كركوك المتآخية» الكردية بما نسبته 63.4٪ من المقاعد (26 مقعدا) وفوز القائمتين التركمانيتين «جبهة تركمان العراق» و «الائتلاف الإسلامي والتركماني) بما نسبته 21.9٪ من المقاعد (9 مقاعد) فيما لم تحصل القائمتان العربيتان «التجمع الجمهوري العراقي» و «التجمع الوطني العراقي» سوى على ما نسبته 14.6٪ من المقاعد (6 مقاعد)!
هذا الاختلال في التمثيل نتج عنه سياسات لاتزال حاكمة للعلاقة بين المكونات الثلاثة في كركوك، لاسيما بعد تعذر إجراء انتخابات محلية في كركوك في الأعوام 2009 و 2013 بسبب الخلافات الحادة بينهم.
وبعد دخول قوات الحكومة الاتحادية إلى مدينة كركوك -في أعقاب فشل الاستفتاء على الانفصال الذي جرى في إقليم كردستان في 2017 – وخروج المحافظ الكردي من المدينة، تغيرت علاقات القوة في المدينة، وتمكن العرب (استلم منصب المحافظ نائب المحافظ العربي) والتركمان من الهيمنة على القرار السياسي في المدينة، خاصة بعد حل مجالس المحافظات في العام 2019.
وفي عام 2023 جرت أول انتخابات محلية في محافظة كركوك في سياق انتخابات مجالس المحافظات العراقية الخمسة عشر بعد 18 عاما من التعطيل، وجاءت نتائج الانتخابات هذه المرة على الشكل الآتي: 7 مقاعد للقوائم الكردية، 6 مقاعد للقوائم العربية، ومقعدان للقائمة التركمانية، ومقعد واحد للكوتا المسيحية. ولكن المتغير هذه المرة هو وجود قائمتين كرديتين بينهما صراع حاد، الأولى قائمة الاتحاد الوطني (5 مقاعد) والثانية قائمة الحزب الديمقراطي (مقعدين).
وكانت المشكلة الجوهرية تتعلق بإصرار كل من العرب والكرد على أن يكون لهما منصب المحافظ، وجاء المقترح بأن يتم تدوير منصب المحافظ بين المكونات الثلاثة، وهو ما قبل به الحزب الديمقراطي، ولكن الاتحاد الوطني كان لديه فيتو على تولي تركماني منصب المحافظ.

الطبقة السياسية السنية قد فقدت كل حس سياسي خارج سياق الاستثمار الشخصي، حتى في القضايا الجوهرية التي تمس وجودهم الاجتماعي والسياسي

هذا الصراع كان يمكن أن يحسم بسهولة وفقا للمعادلة القومية في كركوك (خاصة وأن مقعد الكوتا المسيحي يتحكم به الإطار التنسيقي المتحالف مع الاتحاد الوطني من الأصل)؛ أي أن يتحالف العرب والتركمان مع الاتحاد الوطني حتى تكون المعادلة 14 مقابل 2، أو يتحالفا مع الديمقراطي لتكون المعادلة 10 مقابل 6، وكانت المعادلة الأخيرة هي الأقرب للتحقق بعد قبول الديمقراطي بفكرة تدوير منصب المحافظ بين المكونات الثلاثة، لكن حسابات الحقل لم تكن حسابات البيدر!
فقد أنتجت الانتخابات أعضاء عرب يديرهم وزير ونائبان في مجلس النواب بسبب علاقتهم القرابية، بدلا من أحزابهم؛ فقد نجح الثلاثة (الوزير والنائبان) اعتمادا على البنية الزبائنية التي تحكم الانتخابات العراقية، في أن يفوز أبناء عمومتهم بعضوية مجلس المحافظة، واستطاع هؤلاء أن يديروا المفاوضات بعيدا عن أعضاء مجلس المحافظة!
وبهذا انشق العضو العربي عن تحالف عزم (لأن الذي يقوده فعليا هو نائب سني مرتبط سياسيا بمليشيا عصائب أهل الحق) عن المجموعة العربية، وتحالف مع الاتحاد الوطني، كما انشق عضو عربي آخر من حزب السيادة، ليتحالف، ولو مؤقتا، مع الاتحاد الوطني في مقابل وعدٍ بحصوله على منصب رئيس مجلس المحافظة.
هذا الوضع أنتج معادلة 8 مقابل 8، وهي اللعبة التي عطلت تشكيل حكومة كركوك المحلية طيلة هذه الأشهر!
فجأة، ودون مقدمات، جرى اجتماع في فندق الرشيد يوم 10 آب 2024 برعاية وزير التخطيط محمد تميم (تقدم) ووزير العدل خالد شواني (الاتحاد الوطني) والنائبين مهيمن الحمداني ووصفي العاصي، حضر فيه 9 أعضاء هذه المرة من مجموع 16؛ الاتحاد الوطني (6 مقاعد) والكوتا المسيحية (مقعد) والعضو العربي من عزم، والعضو العربي عن تقدم، وعضو آخر منشق عن السيادة (المفارقة هنا انه غير العضو الذي انشق فيما سبق وعطل تشكيل الحكومة على مدى أشهر) وقرروا تشكيل الحكومة المحلية في كركوك!
وبمراجعة تشكيل هذه الحكومة سنجد أن الاتحاد الوطني قد حصل على منصب المحافظ، فيما حصل أخو وزير التخطيط على منصب النائب الفني للمحافظ (مع أنه ليس عضوا فائزا لهذا ما كان بإمكانه أن يكون رئيسا لمجلس المحافظة) فيما حصل ابن عم النائب مهيمن الحمداني على منصب رئيس مجلس المحافظة، فيما حصل وصفي العاصي على مناصب إدارية مهمة في المحافظة!
ورغم أن ورقة الاتفاق لم تنشر، لأنها تقوم أساسا على توزيع المناصب على المنشقين العرب الثلاثة، لكنها عطلت أحد أهم الأفكار التي كان يمكن لها أن تكون مدخلا لبناء صيغة جديدة للتعايش في كركوك، إلا وهي فكرة تدوير منصبي المحافظ ورئيس مجلس المحافظة، مع ما يترتب على ذلك من توازن في السلطة كان يمكن أن يخفض، بالضرورة، حدة الصراع في المحافظة.
في مقال سابق، تحدثنا عن تحول الانتخابات في العراق إلى أداة للاستثمار في المال العام، أكثر منها أداة للتمثيل. وقد عكست صفقة كركوك هذه الحقيقة بوضوح، فالعرب السنة الثلاثة الذين شقوا الصف العربي في كركوك، وتحالفوا مع الاتحاد الوطني في مقابل المناصب، كانوا الأشد تطرفا في مهاجمة الاتحاد الوطني الكردستاني الذي هيمن على محافظة كركوك على مدى 18 عاما، والأكثر تطرفا في الحديث عن الحقوق العربية الضائعة، لكنهم نسوا كل ذلك لصالح مصالح شخصية ومناصب يمكنهم الاستثمار عبرها في المال العام، ويمكن من خلالها أيضا رشوة الجمهور لإعادة انتخابهم في انتخابات مجلس النواب العام القادم. وهو ما يثبت أن الطبقة السياسية السنية قد فقدت كل حس سياسي خارج سياق الاستثمار الشخصي، حتى في القضايا الجوهرية التي تمس وجودهم الاجتماعي والسياسي وحقوق جمهورهم!

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية