كعكة بوتين ومخبز نتنياهو

صبحي حديدي
حجم الخط
0

أبدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حرصاً متبادلاً على ترك التراشق اللفظي إلى رجال الصف الثاني، على مستوى وزيري الدفاع، بصدد إسقاط الطائرة الروسية “إيل ـ 20” في سماء اللاذقية؛ وذلك لأنّ التراشق الآخر، والأهمّ، توجّب أن يجري على صعيد أوسع، جيو ــ سياسي، بعيد عن العدسات والتصريحات الطنانة. ما يجمع بينهما، شخصياً في الواقع وقبل المصالح المشتركة، أكبر من أن تمسّ بنيانه واقعة واحدة تكدست فيها “سلسلة حوادث مأساوية وقعت بالصدفة”، حسب تعبير بوتين.

ذلك لا يعني أنّ “القيصر” المعاصر يمكن أن يبتلع المهانة العسكرية دون ردّ عسكري الطابع، حتى إذا كانت المضادات سوفييتية الصنع (صواريخ “سام” الشهيرة، دون سواها) هي التي أسقطت شقيقتها طائرة الاستطلاع السوفييتية، ولكن بإدارة ضباط النظام السوري ذاته الذي تدخل بوتين لإنقاذه من السقوط. ولهذا، ولأننا في روسيا ما بعد طيّ صفحة الاتحاد السوفييتي، سوف يتمثل الردّ في تزويد النظام بالجيل الأحدث من الصواريخ ذاتها التي ابتدأت تطويرها معامل الدفاع السوفييتية، سنة 1979. في عبارة أخرى، هذا استئناف بوسائل التكنولوجيا العسكرية لحروب التسلح (الباردة غالباً، الساخنة نادراً) التي انخرطت فيها واشنطن وموسكو طيلة عقود: الطائرة التي سقطت، بصاروخ سوفييتي الصنع، كانت سوفييتية الصنع أيضاً؛ والطائرة الإسرائيلية التي تسترت خلفها (حسب رواية وزارة الدفاع الروسية)، وتسببت في إسقاطها، كانت من طراز “إف ــ 16” أمريكية الصنع.

أمريكا المعاصرة والاتحاد السوفييتي المندثر، إذن، وعلى نحو يجبّ المسميات الجديدة لأنها نافلة على أرض الواقع، من جهة؛ ولأنّ بوتين يستأنف سياسة حول دولة الاحتلال الإسرائيلي لا تنشقّ كثيراً عن الموقف السوفييتي الإجمالي، منذ أن حظيت موسكو بموقع الدولة الأولى التي تعترف بالدويلة الصهيونية في مجلس الأمن الدولي سنة 1948، من جهة ثانية. والفارق الأبرز، اليوم، تمثّله هذه العلاقات الشخصية الدافئة التي تجمع “القيصر” مع “بيبي”، وما أسفرت عنه من لائحة “خدمات جليلة” قدمتها القوات الروسية المحتلة في سوريا، خلال صولات وجولات المقاتلات الإسرائيلية في الأجواء السورية. لكنه فارق متعدد الأطراف في واقع الأمر، لا لأيّ اعتبار آخر سوى أنّ أمن دولة الاحتلال مسألة مقدسة لا نظر فيها ولا مساس بها، ودونها خرط مزيد من القتاد مع الولايات المتحدة، خاصة في عهد الإدارة الحالية.

والحال أنّ إعلان نتنياهو، شخصياً هذه المرّة وليس بلسان وزير دفاعه أفيغدور ليبرمان، أنّ المقاتلات الإسرائيلية سوف تواصل عملياتها في سائر الأجواء السورية، وكلما اقتضت الحاجة، أمر لا يرقى إليه الشك؛ ليس لأنّ هذه المقاتلات تستهين بصواريخ “إس ــ 300” الجديدة، أو تمتلك وسائل التشويش عليها وتفاديها؛ بل ببساطة لأنّ الصواريخ سوف تظلّ، أغلب الظن، تحت أمرة ضباط روس، لديهم أوامر مشددة بتجنّب الاحتكاك مع الطيران الإسرائيلي، وعدم إعادة إنتاج “سلسلة حوادث مأساوية” جديدة. الأساس في التعاقد هو موافقة بوتين، شخصياً وخلال لقاءات متعددة مع نتنياهو، على أنّ الوجود العسكري الإيراني في سوريا لن يكون على حساب أمن دولة الاحتلال، ولن يشكل ترسانة الباحة الخلفية لتسليح “حزب الله”؛ فضلاً عن غبطة الكرملين، الضمنية، بكلّ ما يُقعد إيران في سوريا، لصالح المشروع الروسي في البلد.

ومنذ أن تدخل بوتين في سوريا، قبل ثلاث سنوات، كان المبدأ الناظم هو سعي موسكو إلى ترتيب تشغيل المخبز الكفيل بإنضاج كعكعة يتوجب أن يلتهمها الكرملين، منفرداً كلما أمكن ذلك، أو مع حصص ضئيلة يجري توزيعها على الآخرين، لكلّ حسب جهده وحضوره وأوراقه في الساحة؛ بما في ذلك إشراك دولة الاحتلال في تنظيف المخبز بين حين وآخر. فما همّ، في نهاية المطاف، أن تسقط طائرة استطلاع، بنيران صديقة، ضمن عملية إسرائيلية متفق على مبدأ تنفيذها العامّ… ما دامت تُضاف تلقائياً إلى نفقات إعداد الكعكة!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية