مع نجاح الرئاسة المصرية ودوائرها وأنصارها من رموز الثورة المضادة في مصر وخارجها؛ مع نجاحهم في اغتيال ووأد ثورة 25 يناير، وكانت مصر قد لحقت بتونس، التي بدأ حراكها في نهايات 2010 وسرعان ما امتد لمصر في يناير 2011 وتميز ذلك الحراك في بداياته بأقصى درجات الانضباط والبراءة والتلقائية والوعي، والحفاظ على الطابع السلمي له، ورغم ذلك تمكنت الثورة المضادة بسرعة من الاحتماء بالمجلس العسكرى الأول بقيادة المشير طنطاوي، وتمكنت أكثر أثناء حكم الإخوان، وأضحت متربصة مع حكم عدلي منصور المؤقت، ثم ترعرعت باحتضان المشير السيسي.
أحكمت الثورة المضادة قبضتها الحديدية، وخلطت عن عمد بين الثورة والفوضى، وزادت من وتيرة الملاحقة وتوجيه التهم المرسلة بسبب وبدون سبب، فامتلأت السجون والمعتقلات بالثوار والنشطاء، الذين جرفتهم دوامة «التأديب والانتقام والتضيق» الثلاثية لاستئصالهم، في نفس الوقت استمر العمل بثلاثية مبارك وولده «الاستبداد والفساد والتبعية» كأساس لاستمرار تنفيذ مخطط الإفقار الممنهج؛ ورُفِع الدعم بالكامل، وغرس «صندوق النقد الدولي» مخالبه في أحشاء المواطنين، واستفحلت الجباية، وبدأت الطبقة الوسطى، ومعها المنتجون والفلاحون والعمال والحرفيون وصغار الكسبة؛ بدأت في الهبوط السريع إلى خط الفقر أو الوقوع تحته، مع عجز الحكم عن توفير أساسيات الحياة، وزاد الوضع تأزما بتعويم العملة الوطنية. وتدنى معه مستوى المعيشة، وكانت الطامة الكبرى قد وقعت بالتوقيع على «اتفاق المبادئ» من طرف «المشير السيسي» عن مصر، و«المشير عمر البشير» ممثلا للسودان، ورئيس وزراء إثيوبيا أبي أحمد عن إثيوبيا؛ إتفاق أضاع حصة مصر من مياه النيل، واستمر التفاوض غير المجدي في مواجهة خطر يهدد الوجود المصري، وبتعامل «المشير السيسي» مع إثيوبيا من منطق التعاون في تثبيت الأمر الواقع، وهذه طامة كبرى قد تنبه الغافلون إلى المصير المنتظر!!.
ومع ذلك يتمادى «المشير» في توجيه الإهانات لعموم المصريين والتقليل من شأنهم، وكل ذلك مسجل صوت وصورة في كلماته ودردشاته وانفعالاته في لقاءاته مع شبابه المشمول برعايته، ولم تتوقف الإهانات ولا الكلمات والعبارات الجارحة؛ وذلك لمجرد أن يبدي أحد رأيا ويقدم اقتراحا لايعجب «المشير» فيصبح من العناصر العاملة على هدم الدولة، وشمل ذلك الوصف الغالبية العظمى من الشعب العريق، وينسى أن الشعب هو الباني والحامي والمدافع والمحافظ على أرضه وعرضه ودولته على مر التاريخ.
وهذه سطور نختم بها ذكرى مرور عشر سنوات على ثورة يناير، وتخلي حسني مبارك وولده واسرته عن الحكم؛ علينا إعادة الاعتبار لسلامة وصدق أهداف ومطالب ثورة يناير، التي لم تتمكن من حكم، ولم تشارك في قرار، ولم تجد تقديرا ممن مكنتهم من الجلوس على مقاعد السلطة والحكم، وما يفعله «المشير» هو استمرار إطلاق العنان للثورة المضادة وتمكينها،
وكان من الممكن تحويل شعارات الثورة ومطالبها إلى برنامج عمل ومشروع وطني، إلا إن ثقافة ومصالح الممسكين بزمام الحكم تحول دون ذلك، فهم لا يعرفون إلا الهرولة صوب عواصم الثورة المضادة؛ في واشنطن وتل أبيب والرياض أبو ظبي، والمشكلة هي عدم التمييز بين المقاولات والمقاولين وبين المفكرين والساسة والاقتصاديين والمخططين والخبراء في المجالات المتنوعة، فعمل المقاول يتكفل بشراء الزلط والرمل والطوب والأسمنت والخشب وغيره؛ هذا فهم قاصر وفكاهي وكاريكاتيري نقيض ما يحتاجه المشروع الوطني من خبراء وأكاديميين ومفكرين ومن على شاكلتهم؛ غياب كل هؤلاء أدى لاختفاء المشروعات الوطنية والقومية الحقيقية!!.
كان من الممكن تحويل شعارات الثورة ومطالبها إلى برنامج عمل ومشروع وطني، إلا أن ثقافة ومصالح الممسكين بزمام الحكم تحول دون ذلك
عُرِفت ثورة يناير بأهدافها ومطالبها الواضحة؛ مختزلة في شعارات وهتافات كان من الواجب صياغتها في وثيقة تكون أساسا للعمل الوطني، وتملك مصر رصيدا كبيرا في هذا المجال؛ جعل من مبادئ ثورة يوليو الستة محفزا لكتابة فلسفة الثورة، وكانت الوحدة السورية المصرية، والانقلاب عليها، وفصل سوريا عن مصر؛ كانت حافزا لتأسيس «المؤتمر الوطني للقوى الشعبية» وإصدار «ميثاق العمل الوطني» كدليل عمل مدته عشر سنوات، وكان المأمول خروج ثورة يناير بوثيقة جامعة معبرة عنها وعن رعاتها وشركائها وعن من ضحوا من أجلها،
والخلط بين المشروع الوطني ومقاولات المعمار، التي تنفذها شركات المقاولات والبناء دون رؤية، وأغلب المسؤولين فيها لا يفرقون بين المشروع الوطني والإنشاءات السكنية والإدارية والتجارية والطرق والكباري وبين المشروع الوطني، وكان السد العالي مشروعا عمرانيا تنمويا؛ الأهم والأعظم في القرن العشرين، حسب تقرير «الهيئة الدولية للسدود والشركات الكبرى» الذي «وضع السد العالي في صدارة كافة المشروعات، واختارته الهيئة الدولية كأعظم مشروع هندسي شيد في القرن العشرين». وتلك شهادة هندسية مستحقة، لكنها لم تعبر عن الدور المركزي الذى لعبه السد العالي في تاريخ الكفاح العربي المعاصر.
وكان السد العالي جزءًا من مشروع وطني وقومي أشمل، وكان مشروعا عاما للمستقبل؛ عند المقارنة إذا كان السد العالي من تجليات مشروع التغيير الوطني والقومي الأكبر والأشمل، فإن مشروع «العاصمة الجديدة» مثلا يأتي خارج السياق؛ كمشروع شخصي تنفذه شركات المقاولات والهيئة الهندسية بالقوات المسلحة، وذلك للتخديم على طُبَيْقَة (تصغير طبقة) محدودة للغاية؛ قوامها أباطرة مال وأعمال وكبار جنرالات شرطة وجيش وموظفي دولة، ويتكلف أضعاف تكلفة السد العالي، ومردوده محدود؛ إذا كان له مردود أصلا، والسد العالي غطى تكلفته في سنوات معدودة!!.
وتكفلت القيمة الشاملة والمضافة لقوة مصر والعرب بدحض الحملات التي نادت بهدم السد والتخلص منه، وفي النهاية تم تسليمه لخبراء أمريكيين للصيانة حاليا، وسبق لآبائهم أن ضغطوا على «المصرف الدولي للإنشاء والتعمير» حتى سحب موافقته على تمويله، وبالقطع لن يكونوا أفضل، وصيانتهم لن تكون آمنة أو أمينة!! فمعركة السد العالى كانت أحد معارك حرب حقيقية شاملة ضد مصر وشعبها وأمتها.
وعن ماهية المشروع الوطني أو القومي أو الأممي نعود إلى المشروعات التي طُرحت على العالم، وتناولها المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، وكانت مشاريع ثلاثة طُرِحت من أكثر من قرن: 1) مشروع حداثة أوروبية ذات وجه استعماري مغاير لما بشرت به أوروبا من حرية وتقدم وسلام ورفاه لشعوبها والعالم. 2) مشروع اشتراكي أممي؛ انطلق من روسيا القيصرية قبيل ثورتي 1905 و1917. 3) مشروع صهيوني؛ عدواني عنصري ووجه للحداثة الأوروبية، وانتقل من الحضن الأوروبي إلى التبني الأمريكي.
وبدأت إرهاصات «المشروع العربي» بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور حركات التحرر العربية والافريقية واللاتينية، وخرج الاحتلال من مصر والسودان وتونس والمغرب والجزائر، وفي ربع القرن الأخير، وجد «المشروع العربي» اهتماما، ولعب «مركز دراسات الوحدة العربية» دورا كبيرا في صياغة «المشروع النهضوي العربي»؛ كمشروع حضاري عُرِض على «المؤتمر القومي العربي» في دورته الحادية والعشرين ببيروت في 2010، وارتكز على أهداف ومطالب ستة:
أولا: الوحدة العربية، في مواجهة التجزئة بكل صورها القطرية والطائفية والقبلية. ثانيا: الديمقراطية، في مواجهة الاستبداد بكل صوره ومستوياته. ثالثا: التنمية المستقلة، في مواجهة التخلف أو النمو المشوّه والتابع. رابعا: العدالة الاجتماعية، في مواجهة الظلم والاستغلال بكل صوره ومستوياته. خامسا: الاستقلال الوطني والقومي، في مواجهة الهيمنة الأجنبية؛ الإقليمية والدولية. سادسا: التجدد الحضاري، في مواجهة الجمود التراثي في الداخل والمسخ الثقافي من الخارج.
وكان من المتوقع أن تنهل ثورة يناير 2011 من ذلك التراث في وضع «مشروع وطني»؛ كان ممكنا؛ ووضعت له عناوينه الأربعة: «العيش.. الحرية.. العدالة الاجتماعية.. الكرامة الإنسانية» وللأسف لم يجد ذلك من يتبناه ويبلوره في صيغة «مشروع وطني للتغيير» بعد نجاح الثورة المضادة في وأد ثورة يناير ذاتها واغتيالها، وأخيرا نسأل هل كان في مقدور هذه الثورة الكبرى أن تقدم «مشروعا وطنيا» يكون دليل الوطنيين والثوار إلى حكم مستقل ومستقر.. والرد بنعم، ولكن لنسأل عن المتسبب في منع ذلك؟!
كاتب من مصر