لا يمكن لشعوب غير حضارية أن تختار حكّاماً حضاريين إنسانيين وطنيين، لأن الحكّام السافلين أنفسهم هم من صنع الشعوب. الحاكم كما علمتنا الأدبيات الدينية والسياسية هو ليس فقط نتاج المجتمعات بل هو صانعها أيضاً. وبالتالي فيمكننا مناقشة الحديث الضعيف الذي يقول «كما تكونوا يولى عليكم»، لأن المجتمعات والشعوب لا تصنع نفسها بنفسها، بل إن النخبة الحاكمة والمسيطرة في المجالات كافة هي من تصنع المجتمع كما يصنع الخباز من العجينة كل أنواع الخبز والمعجنات. الشعوب عبارة عن عجينة فعلاً تستطيع أن تصنع منها ما تشاء، وبالتالي إذا فسدت الشعوب فليس لأنها سيئة أو تحب الفساد والانحراف والسفالة، لا أبداً، بل لأن حكّامها وحكوماتها أرادت لها الاتجاه في هذه الاتجاه أو ذاك. ولا ننسى أن الناس في نهاية المطاف هم نتاج الأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية والتعليمية والدينية والإعلامية للحكومات. باختصار فإن الأنظمة والحكّام هم من يصنعون المجتمعات والشعوب وليس العكس.
النظام الفاسد يصنع مجتمعاً فاسداً يناسبه، والنظام الصالح ينتج نظاماً صالحاً يناسبه. وحتى لو كان هناك مجتمع يميل إلى الخير أكثر من الشر والفساد، فغالباً ما يلجأ النظام الفاسد إلى إفساد المجتمع والشعب كي يستطيع العيش فيه ومعه. وهذا ما حصل في سوريا على سبيل المثال لا الحصر، فقد اتبع النظام الأسدي منذ وصوله إلى السلطة سياسة «إفساد من لم يفسد بعد» كما سمّاها المفكر الراحل الطيب تيزيني. لقد مارس النظام سياسة إفساد منظم لأنه هو نفسه أصل الفساد والسقوط الأخلاقي، أو مطلوب منه ومن مشغليه أن يكون هكذا ليلعب الدور الوظيفي المناط به لحكم سوريا. وقد أخبرنا المصلح الكبير عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير «طبائع الاستبداد» أن لا قيمة للتربية والأخلاق الحميدة تحت ظل الطواغيت، فلو زرعت الفضيلة في قلب أبنائك، فإن النظام الغاشم سيقتلعها وسيزرع مكانها كل أنواع الرذيلة. بعبارة أخرى السوريون ليسوا سيئين بطبعهم، بل إن النظام أفسدهم تنفيذاً لمخطط مدروس يُرضي الذين جاؤوا بالنظام إلى السلطة في سوريا وينفذ مخططاتهم.
لاحظوا مثلاً ماذا صنع الزعيم الماليزي مهاتير محمد من الماليزيين الفقراء غير المتجانسين عرقياً، لقد جعل منهم دولة لها مكانتها في العالم بين الكبار. لماذا؟ لأن الرجل يحمل مشروعاً خيراً وحضارياً، وكان همه النهوض ببلده وشعبه وليس تحويل الشعب إلى ثلة من الفاسدين كما فعل حافظ الأسد ومن بعده ابنه في سوريا مثلاً. وبالمناسبة عندما زار مهاتير محمد سوريا في الخمسينات قال قولته المشهورة: «سأجعل من ماليزيا سوريا أخرى»، لأن سوريا كانت في ذلك الوقت مثالاً يحتذى في التقدم والديمقراطية والحضارة، لكنها أصبحت رمزاً للفساد والسقوط بعد أن استلمها آل الأسد ليحولوها إلى مضرب للمثل في الانحطاط، ومن ثم دمروها وشردوا شعبها بعد أن حاولت أن تنفض عن نفسها غبار فساد ونذالة حكامه التي كانت مفروضة عليها بقوة السلاح والحديد والنار.
النخبة الحاكمة والمسيطرة في المجالات كافة هي من تصنع المجتمع كما يصنع الخباز من العجينة كل أنواع الخبز والمعجنات
قارنوا أيضاً بين تركيا قبل أردوغان وتركيا بعد أردوغان. لقد انتقل البلد خلال فترة وجيزة من حكم حزب العدالة والتنمية من مصاف البلاد المتخلفة إلى مصاف الدول المتقدمة، وصارت تركيا رقم 17 على مؤشر الاقتصاديات العالمية القوية، بينما كانت إسطنبول أكبر مدينة تركية قبل ذلك تفوح منها الروائح الكريهة لأنها لم تكن تمتلك وقتها شبكة صرف صحي. وحتى الإنسان التركي نفسه لم يكن محط احترام وإعجاب العالم قبل قدوم أردوغان، لكن تركيا أصبحت رقماً صعباً خلال فترة وجيزة، وصار التركي يحظى باحترام كبير على الساحة الدولية، وصارت تركيا منارة في التقدم البشري والحضاري والعلمي، لأن الحزب الحاكم والقائد أرادا انتشالها وانتشال شعبها من قاع التخلف إلى سنام الحضارة. ولولا حزب العدالة والتنمية ولولا أردوغان لما صارت تركيا على ما هي عليه الآن. وبالتالي يجب أن نقلب القول الشهير: «كما تكونوا يولى عليكم» رأساً على عقب ليصبح: «كما يولى عليكم تكونوا».
هل نلوم السوريين الذين يصفقون للنظام بعد أن قتل وشرد الملايين ودمر سوريا؟ أم نلوم النظام نفسه الذي أنتج هذه الثلة التشبيحية المجردة من كل القيم والأخلاق والنواميس الإنسانية، وحسب المثل: «إذا كان رب البيت للدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص». هذه هي أخلاق وقيم النظام الحاكم، فلا عجب أن يكون مناصروه وأتباعه من الطينة نفسها يصفقون لاستخدام السلاح الكيماوي ضد أشقائهم في الوطن ويرقصون ويشربون نخب حرق المدن وتهجير الملايين.
لاحظوا اختلاف القيم والأخلاق بين أنظمة العالم التي تدافع عن رعاياها إينما كانوا وبشار الأسد الذي يعتبر تشريد واعتقال نصف الشعب السوري وقتل الملايين نصراً مبيناً ويحتفل بذلك ليل نهار، بينما نصف شعبه لاجئ أو نازح أو مقتول أو معتقل. وكذلك مؤيدو بشار الأسد وعصابته يصفقون له على تدمير سوريا وتهجير أشقائهم في الوطن وحرق الأخضر واليابس في البلد، لأنهم يعتبرون النذالة والهمجية قيمة عظمى ولماذا لا تكون أخلاقهم كذلك إذا كان هذا حال أخلاق رئيسهم وجيشه وزبانيته ينبشون قبور السوريين لينتقموا من الموتى وأهلهم وليثبتوا للعالم أن هذا النظام ومؤيديه لا ينتمون للبشرية.
لقد قالها الفيلسوف الصيني الشهير كونفوشيوس منذ زمن بعيد: «إذا صلُحَ الحاكم فمن يجرؤ على الفساد؟» لا أحد طبعاً، لأن الثلم الأعوج من الثور الكبير، ولأن غسيل الدرج يبدأ من الأعلى إلى الأسفل، ولا ننسى أن الناس على دين ملوكها. وعندما يرى المواطن البسيط أن النظام يسرق البلد، فلا شك أنه سيتحول هو نفسه إلى حرامي.
وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ
فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا.
٭ كاتب واعلامي سوري
[email protected]
هل كانوا حتى يكونوا؟
هذا أفضل مقال قرأته لك ، هو مقال هادق حقيقي علمي واقعي ولطالما طال النقاش بهذا الموضوع تحديدا بأن النظام وجد للإفساد ..
So what, ? no difference is what you’re saying.. people governing or those governed. does not matter much who is deciding, since the result is the same. Indeed you can not change neither the first nor the other. .
مقال جميل جيدا دكتور
لقد اصبت الهدف كعادتك
ولمن يعى مقال كهذا ممكن يغير توجهات حياته
فمن ظل تحت هذه الانظمة الفاسدة
ولم يتخير تغير مكانه فمئاله الي السفالة او الزوال او معيشة ضنكى
د فيصل لا نتوافق معكم فى هذا التقييم. من هم حول النظام هم , مرغم اخاك لا بطل, ولا يمثلون حقيقة الشعب السورى
الأمثلة الشبيهة كثيرة في دولنا العربية يا دكتور! السيسي لمصر, بن زايد للإمارات, بن سلمان للسعودية, حفتر لليبيا, إلخ إلخ!! ولا حول ولا قوة الا بالله
آخر عبارة ( وعندما يرى المواطن البسيط أن النظام يسرق البلد ، فلا شك أنه سيتحول هو نفسه إلى حرامي ) . غير صحيحة تماما ، آلاف الشرفاء في أوطاننا العربية متمسكون بمبادئهم رغم سرقة الحكام ومن والاهم للأوطان ، ومحافظون على يدهم النظيفة ، الخيرون لا يتغيرون مهما تغير من حولهم ، نسمع عن كثير من الدول العربية سرقة حكامها للثروات فهل يعني ذلك أن شعوبها من السارقين ؟
السيد الفاضل / د. فيصل
قرأت مقال لك بعنوان “الراعي والكلب أقوى من القطيع” بعيد صياغتي لمجموعة من الفقرات تحدثت فيها عن نُظُم تغيير المجتمعات وكان لب الموضوع أن تغيير الشعوب لا يأتي من الأسفل إلى اﻷعلى (يعني من الرعية إلى الراعي) بل باستمرار من الراعي إلى الرعية. وتعودت أن أقول لكل من حاججته في هذا اﻷمر “تكونوا كما يُولّى عليكم”، وضربت مثلا لتغيير المجتمع المصري الملكي من مجتمع كان يؤلّه أسرة محمد علي وآخر حفيد فاسد لهم (فاروق) إلى مجتمع جمهوري أصبح كل فرد فيه ينتقد أفعال محمد علي وأحفاده. التغيير جاء من الأعلى، أي من القيادة.
ونضرب مثلا آخرا من ألمانيا حيث جاء هتلر فجعل من الألمان شعبا يعتقد تمام الاعتقاد أنه الشعب الألماني أفضل من الشعوب الأخرى بسبب العرق. تأييد هتلر كان جنونياً، وهو القائد، فلما هُزِمت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية واستيقظ الألمان من كابوسهم، إذا بهم يرون في الأمم الأخرى بشراً مثلهم. تغيير المجتمع الألماني من مجتمع متكبر على الشعوب الأخرى إلى مجتمع يعايش الشعوب الأخرى بسلام، جاء أيضا من الأعلى، أي من الحكام الجدد فيما سُمِّي باجتثاث النازية.
يتبع
يا أخ أحمد
وأين هو التقدم المذهل والحرية الجبارة فى أن يقوم المصريون بسب محمد على وأحفاده بعد انقلاب ١٩٥٢?!! … السؤال هنا, هل كان يستطيع أى أحد وقتها -ولو حتى فى أحلامه- أن ينتقد (ولا أقول يسب) بطل الهزائم ومؤسس حكم جهلة العسكر, السفاح جمال عبد الناصر?!! …
.
وبالمناسبة, كم كانت مساحة مصر قبل يولية ١٩٥٢, وكم أصبحت عند وفاة عبد الناصر
.
وبالمناسبة أيضاَ … أين ذهب غطاء الذهب المصرى الذى تركه (((الفاسد جداً))) فاروق, والذى كان الثانى على العالم بعد أمريكا … وماذا فعل به (((الأمين جداً))) عبد الناصر?!!
قرأت في فصل «الحكومة وأخلاق الناس» من كتاب «التدين المنقوص» للكاتب والمفكر د. فهمي هويدي ما يلي:
«إن وجدت بين الناس فضائل شاعت، أو رذائل ومعايب تفشت وذاعت، ففتش عن الحكومة ودقق فيما تقول وتفعل، حتما ستجد ذلك الحبل السرى الذي يربط فيما بين الاثنين، حتى يتخيل إليك أنك بإزاء نهر واحد. السلطة منبعه والناس مصبه، وقد تقول مع من قال بأن المحكومين مرآة الحاكمين، وأن الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم».
ومقالك اليوم إذ تناغمت أفكاره مع شيء كتبته عن تغيير المجتمعات في سنة 2015، وما كتبه د. هويدي منذ أكثر من ثلاثين سنة، فمن الجائز هنا أن نتكلم عن أن الحق يطرق باب العقول، فمنهم من يستقبله ومنهم من يغفل عنه.
أحمد حمدي / ألمانيا
كانت لنا في المرحلة الثانوية في الثمانينات أستاذة ثورجية قالت معلقة ساخرة من بيت شوقي حول الأخلاق:
بل الأمم صناعتها و تسليحها. و سخر معها مجموعة من التلاميذ ضاحكين.
كانت لي رغبة أن أعلق بشرط الأخلاق حتى نصل إلى التصنيع و القوة لكني تراجعت حتى لا أتهم بالسذاجة و الرجعية
أتبثت العشرية الأخيرة أن شوقي كان على ألف حق