هناك ألف دليل ودليل على أن هذا الكائن المسمى الإنسان يُعتبر فعلاً أعظم ما خُلق أو ما تطورَ من كائنات على هذا الكوكب (كي لا يزعل منا مؤيدو نظرية التطور الدارويني) فسواء كان مخلوقاً أو متطوراً يبقى هذا الكائن تحفة خَلقية أو متطورة شديدة الذكاء والدهاء والإبداع على كل الأصعدة العلمية والصناعية والسياسية والتجارية، والاجتماعية، والثقافية، والفنية. ولو قارنا وضع هذا الكائن قبل آلاف أو ملايين السنين بوضعه الآن لوجدنا حجم التطور والإنجازات المهولة التي حققها البشر، فقد كان الإنسان على مدى آلاف السنين، حسب الدراسات العلمية والأحفورية، مجرد متسكع ينتقل من مكان إلى آخر بحثاً عن الطعام، لا بل كان أضعف المخلوقات في ذلك الزمن، فمعظم الحيوانات كانت أقوى منه، لذلك كان ينتظر الوحوش الكبيرة والصغيرة والطيور الجارحة كي تنتهي من أكل الفريسة حتى يأتي دوره ليأكل ما تبقى من أنسجة وبقايا لحم، لكنه كان على عكس بقية الحيوانات ذكياً، فهو الوحيد الذي كان يكسر عظام الفريسة ليأكل النخاع الموجود داخلها، لذلك فقد ظل يستخدم عقله ويتطور حتى أطلق الثورة المعرفية قبل حوالي سبعين ألف عام وأصبح يتحكم بالطبيعة وما عليها من نباتات وحيوانات أخرى بشكل مذهل خاصة بعد أن بدأ يستخدم النار والضوء وبعد أن ازداد دماغه حجماً وتغيرت طبيعة جهازه الهضمي وتركيبة فمه وفكيه. ومنذ الثورة المعرفية مروراً بالثورة الزراعية قبل حوالي اثني عشر ألف عام التي مكنته من الاستقرار في مناطق محددة، وهو يتطور ويسيطر على كوكب الأرض بشكل رهيب، وهذا الاستقرار جعله يقفز لاحقاً من عصر العصر الزراعي والحديدي وغيره إلى عصر الصناعة، لا بل إنه قضى على الأشكال الأخرى من بني جنسه كالنياندرتال وغيره من الأجناس.
لا شك أن الإنسان حقق معظم إنجازاته العظيمة منذ الثورة المعرفية وما تلاها من ثورات زراعية وصناعية على مدى سبعين ألف عام كما أسلفنا، لكن العجيب الغريب أن أعظم إنجازاته تأخرت كثيراً. صحيح أنه توصل إلى العديد من الاكتشافات العلمية الخارقة منذ ظهور اسحق نيوتن مكتشف الجاذبية وأبي الثورة العلمية الحديثة مروراً بأعظم علماء الفيزياء والفلك والرياضيات والكيمياء من أمثال ابن الهيثم وابن سينا والرازي والخوارزمي وكوبر نيكوس وغاليليو وأينشتاين وكبلر وهايزنبيرغ وغاموف ولو ميتر وسيجان وباستير وكوري وغيرهم كثيرون. لكن لو قارنا التقدم البشري قبل مئة عام بالتقدم البشري اليوم علمياً وتكنولوجياً وصناعياً واجتماعياً وثقافياً وفنياً، لوجدنا أن الإنسان تقدم في العقود القليلة الماضية أكثر مما تقدم على مدى قرون وحتى ألفيات، ويكفي أن نلقي نظرة على التطور الهائل والخرافي في كل مجالات الحياة الحديثة لنرى حجم القفزات النوعية التي قفزها الإنسان في فترة وجيزة على عكس كل العصور والقرون المنصرمة. انظر فقط إلى مجال الطيران بشقيه المدني والعسكري، وكيف تطور بشكل مذهل لم يكن يخطر على بال أحد. أنظر إلى مجال السيارات وكيف بات يتفنن الإنسان بأشكالها وألوانها ومحركاتها. انظر إلى مجال اللباس وكيف تحولت إلى صناعات مليارية وكيف تنوعت وتعددت بشكل لا سابق له عبر التاريخ البشري، بعد أن كان الإنسان يكتفي ببعض أوراق الشجر والأقمشة البدائية ليستر جسمه ويحميه. انظر إلى دور الأزياء اليوم وسترى الفرق المذهل. انظر أيضاً إلى مجال الزينة والعطور وكم تطورت الحلي، والمجوهرات، والمكياج، والتزيّن. انظر إلى صناعة الطعام والشراب وقارنها بالوضع قبل أقل من مئة عام وسترى أين وصل الإنسان في مجال التغذية. انظر أين وصل في مجال التجارة والاقتصاد والمال والبنوك والعملات الرقمية والبورصة والشركات وقارنها بالوضع قبل قرن من الزمان فقط، وسترى العجب العجاب.
درة تاج التقدم البشري المذهل ألا وهو مجال الاتصال والتواصل الإلكتروني والإنترنت، الذي وفر الأرضية المناسبة لظهور العلم الذي ربما سيغير وجه البشرية
انظر إلى المجال الطبي المذهل أين كان وأين صار. قارن المجال الصناعي اليوم وما وفره للبشر من رفاهية غير مسبوقة تاريخياً بما كان عليه الوضع قبل عقود قليلة. ولا تنس درة تاج التقدم البشري المذهل ألا وهو مجال الاتصال والتواصل الإلكتروني والإنترنت، الذي وفر الأرضية المناسبة لظهور العلم الذي ربما سيغير وجه البشرية كلها ويعيد ضبط إعداداتها، ألا وهو الذكاء الاصطناعي الذي كان متوقعاً له أن ينضج خلال عقود قادمة، فإذ به يختصر عشرات السنين بسنوات قليلة. العالم كله اليوم ينظر بكثير من الدهشة إلى هذا العصر الجديد الذي ربما سيقضي على البشرية ذاتها خلال عقود قليلة كما تنبأ ستيفن هوكنغ وكما يتنبأ اليوم المفكر يوفال هراري إذا لم يتمكن الإنسان من السيطرة عليه. لا يمكن طبعاً أن ننكر إبداعات الإنسان في العصر الفرعوني وبناء الأهرامات ولا في العصر الإغريقي وبناء الأكروبوليس، لكن العلوم الحديثة تجاوزت كل ذلك.
لا أريد أن أبدو محسوباً هنا لا على معشر الملحدين ولا المتدينين، بل أحاول أن أطرق الموضوع من وجهة نظر علمية مجردة بحتة، وهنا نتساءل: لماذا يحاول كثير من العلماء والباحثين ليل نهار بعد إنجازاتهم العظيمة إنكار وجود خالق لهذا الكون، وأن كل المخلوقات والنباتات والتضاريس والظواهر الطبيعية هي مجرد تطور طبيعي دارويني للمادة أو الذرات المنبعثة والمتشكلة من الانفجار العظيم قبل أكثر من 13 مليار عام، وأن ليس هناك قوة بعثت الروح في المخلوقات. ومع احترامي لكم، أرجو ان تتواضعوا قليلاً وتعترفوا بأنكم لستم قادرين حتى الآن رغم كل إنجازاتكم الكبرى على معرفة واحد بالمليون من أسرار الكون والخلق. ماذا لو تطورت عقولكم قليلاً في قادم السنين وتوصلتم الى اكتشافات جديدة مذهلة؟ أليست كل المعتقدات والنظريات العلمية قابلة للتطوير وحتى التغيير كما أثبت التطور البشري المذهل نفسه في السنوات القليلة الماضية، لهذا على الملحدين وخاصة العلماء منهم أن يتريثوا قليلاً قبل أن ينفوا وجود خالق لهذا الكون، فقد يتوصلون الى حقائق جديدة في قادم السنين تقلب كل النظريات والتصورات العلمية القديمة والحديثة، كما قلب العلم والعلماء أنفسهم العالم، وتقدموا به بشكل مذهل الى الأمام خلال فترة وجيزة في العقود القليلة الماضية لم يسبق لها مثيل مطلقاً.
أليس من المزايا العظيمة للعلم أنه يخطئ ويصحح ويتقدم، وأن كبار العلماء أخطأوا وصححوا؟ ستيفن هوكنغ في الثمانينيات مثلاً قال حرفياً: «لم يبق أمامنا سوى القليل القليل لنفهم أسرار الكون، وبعد سنوات قليلة عاد وقال كنت مخطئاً، لا بل تراجع عن نظرية الانفجار العظيم وبدأ يتحدث عن نظرية الأكوان الأزلية المتعددة. وأينشتاين كان يجزم بأن الكون ثابت، ثم اعترف لاحقاً بخطئه وأكد أن الثابت الكوني غير صحيح، وأن الكون يتمدد حسب نظرية البيضة الكونية لصاحبها جورج لو ميتر. لهذا فإن الإلحاد إما جهل، أو حماقة، أو وقاحة، أو قلة عقل، أو جميع ما سبق. وقد قال مكتشف فيزياء الكم العالم الألماني فيرنر هايزنبيرغ: «إنّ أول جرعة من كأس العلوم الطبيعيّة ستجعلكَ مُلحداً، ولكن في قاع الكأس ستجدُ اللهَ في انتظارك». لكن هذا لا يعني مطلقاً أن الملحدين قليلو عقل وعلى خطأ وأن المتدينين أكثر عقلاً ووعياً وعلى صواب، لا أبداً، لهذا نقول للطرفين: قليل من التواضع أيها الملحدون والمتدينون، فلا العلم يعرف أسرار الكون ولا الدين. وبالتالي يبقى عقل الإنسان مهما امتلك من علم ومعرفة ودين قاصراً حسب إيمانويل كانط نفسه، وبالتالي لا أحد على الأرض يملك الحقيقة الكاملة، والقادم متسارع ومذهل. يُرجى الانتظار وعدم الحسم أو القفز إلى استنتاجات متسرعة حول خلق هذا الكون العظيم.
كاتب واعلامي سوري
[email protected]