الناصرة ـ «القدس العربي»: في قلب مرج بن عامر الفلسطيني الواسع الممتد بين بيسان وبين حيفا، يرتفع جبل مميز بارتفاعه نحو 600 متر وبوفرة أشجار المل والبلوط التي تجعله أخضرا، وبشكله البيضوي منتصبا وسط مساحات سهلية تمتد على مدّ النظر يدعى جبل التابور أو جبل الطور. لكن المكان لا يمتاز فقط من ناحية الجغرافيا والتوبوغرافيا فحسب بل من الناحية الدينية والتاريخية والأثرية، فعلى قمته تتربع كنيسة التجلي ودير الفرنسيسكان، والطريق نحو القمة رحلة جبلية ممتعة بالمركبة فهي تلتوي كالثعبان بتعرجاتها الحادة، وكلما تصعد منعطفا واحدا يكتمل المشهد الطبيعي الخلاب أكثر فأكثر حتى يبلغ قمته. تنفتح المشهدية الجميلة على مصراعيها من الجهات الأربع ويصل البصر إلى جبل الشيخ السوري وجبال موآب الأردنية، وأنت في قمة هذا الجبل المميز، جبل التابور أو بالعامية «جبل الطور». وكلمة تابور أو ثافور هي لفظة يونانية وتعني المكان المرتفع أو الجبل. وقد ذُكر إسم جبل طابور في العهد القديم في سفر المزامير في المزمور التاسع والثمانين: «الشمال والجنوب أنت خلقتهما. تابور وحرمون باسمك يهتفان» مثلما ذكر أيضا في سفر يشوع الإصحاح التاسع عشر عدد 12 ح. في العهد الجديد لم يُذكر الجبل باسم طابور وأنما بالجبل المقدس كما ذكره القديس بطرس الرسول في رسالته الثانية (الإصحاح 1 عدد 18) لأنه أخذ من الله الأب كرامة ومجداً، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسني: «هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به، ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلا من السماء، إذ كنا معه في الجبل المقدس». ومع أنه في العهدين لم يذكر الاسم ذاته للجبل إلا أن الايمان القديم والتقليد الرسولي يربط جبل طابور بحادثة تجلي يسوع المسيح. وبعد هذا الكلام بنحو ثمانية أيام، أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب وصعد إلى جبل ليصلي، وفيما هو يصلي صارت هيئة وجهه متغيرة، ولباسه مبيضا لامعا وإذا رجلان يتكلمان معه، وهما موسى وإيليا اللذان ظهرا بمجد، وتكلما عن خروجه الذي كان عتيدا أن يكمله في القدس، وأما بطرس واللذان معه فكانوا قد تثقلوا بالنوم. وفقا لهذه التقاليد المسيحية فإنه عندما استيقظوا رأوا مجده، والرجلان الواقفان معه وفيما هما يفارقانه قال بطرس ليسوع: يا معلم، جيد أن نكون ههنا. فلنصنع ثلاث مظال: لك واحدة، ولموسى واحدة، ولإيليا واحدة. وهو لا يعلم ما يقول وفيما هو يقول ذلك كانت سحابة فظللتهم. فخافوا عندما دخلوا في السحابة وصار صوت من السحابة يقول: هذا هو ابني الحبيب. له اسمعوا. (لوقا الإصحاح التاسع).
تجلي المسيح
كذلك وفقا للتقاليد المسيحية رأى آباء الكنيسة الأوائل بتجلي يسوع المسيح، وتجلى موسى وإيليا معه أمام تلاميذه بطرس ويعقوب ويوحنا على أنه عربونًا لتجلي الطبيعة البشرية كلها بوجه عام. وحسب هذه المعتقدات فإن هذا التجلي هو فداء طبيعتنا من المادة وثقلته وهو وعد من الرب بأن ينقذ طبيعة البشرية من عبودية الفساد، عبودية المادة، لكي يصيروا روحانيين ونورانيين، وبهذا يصبحون أهلًا للحياة في الملكوت المعد لهم.
ويوضح الدليل السياحي المختص بمعالم التاريخ والآثار في منطقة الجليل فوزي ناصر لـ «القدس العربي» أنه خلال السنوات المسيحية الأولى ثبت أن جبل طابور هو الجبل المرتفع الذي عليه تجلى السيد المسيح. ويوضح أيضا أنه في القرن السادس ميلادي كانت مبنية على قمة الجبل ثلاثة هياكل-كنائس ترمز للثلاث مظال التي ظهرت أثناء التجلي. في هذه الفترة أعلنت منطقة جبل طابور أسقفية حيث ضمت هذه الأسقفية العديد من الرهبان والحجاج المسيحيين، أما في الفترة الصليبية قد استقر العديد من الرهبان البندكتيين واليونانيين، ولكن بعد طرد الصليبيين من الأراضي المقدسة سنة 1211 قام سلطان دمشق بهدم جميع الكنائس المسيحية وعلى أنقاضها قام ببناء قلعة متينة تُوجد العديد من بقاياها حتى اليوم في أماكن مختلفة من جبل الطور. منوها أن قمة جبل الطور اليوم هي رمز من رموز الديانة المسيحية في الأراضي المقدسة برعاية رهبان أورثوذوكسيين يونانيين ورهبان لاتين. في الجهة الجنوبية من الجبل يقع دير الروم الأورثوذوكس وكنيسة التجلي التي بُنيت سنة 1862. أما في الجهة الشمالية فيقع دير الفرنسيسكان وبيت الضيافة وأما الكنيسة العريقة هناك فقد بُنيتْ على بقايا كنيسة بيزنطية قديمة.
برج الجرس في الدير الأورثوذوكسي
وحسب نقوش أثرية في الموقع تم بين عامي 1919-1924 بناء كنيسة كاثوليكية على قمة الجبل سميت بكنيسة التجلي، أما المهندس المعماري الذي خطط الكنيسة، هو أنطونيو بارلوزي إضافة إلى تخطيطه لعدة كنائس في البلاد. وقد بنيت هذه الكنيسة على بقايا كنيسة بيزنطية من القرنين الخامس والسادس الميلاديين، وكنيسة بيزنطية أخرى بنيت في القرن الثاني عشر. وتنتمي الكنيسة إلى الرهبنة الفرنسيسكانية، والرهبان يعيشون في دير بالقرب من الكنيسة التي اقيمت في عام 1873. بنيت الكنيسة من ثلاثة صحون منفصلة في صفين من الأعمدة تحمل الأقواس في برجي الأجراس على جانبي مدخل الكنيسة، في المبنى يوجد مصليان. المصلى الشمالي مخصص للنبي موسى ويظهر هناك وهو يأخذ ألواح الوصايا العشر على جبل سيناء، أما المصلى الجنوبي فمخصص للنبي إيليا. في الجزء العلوي من الكنيسة، وفوق المذبح، لوحة فسيفسائية تصور التجلي، وفي السادس من آب/أغسطس في كل عام يحتفل بعيد التجلي. وقريبا من الكنيسة الكاثوليكية، تم بناء في عام 1862 كنيسة أورثوذوكسية متواضعة من أموال بعض الناس من رومانيا وهي مكرسة للنبي إيليا وهي كانت المبنى الديني الأول التي تم بناؤه على أيدي مسيحيين من رومانيا في الأرض المقدسة. وفي الجانب الشمالي-الغربي للكنيسة هناك كهف يسمى بكهف ملكي صادق. حسب الروايات المسيحية كان هناك لقاء بين إبراهيم وملكي صادق، الكهف كان معروفا للحجاج المسيحيين في العصور الوسطى. مع زيادة عدد الحجاج للمكان خصصت ساعات محددة لاستقبال الجمهور واليوم تتوافد مجموعات متتالية من السائحين والحجاج المسيحيين من كل العالم لهذه القمة الجغرافية والروحية النادرة.
قرية دبورية
ويوضح المرشد السياحي فوزي ناصر أن هناك أطلال كنيسة صليبية مبنية على آثار كنيسة بيزنطية داخل قرية دبورية الفلسطينية في السفح الأسفل لجبل الطور، كانت قد أقيمت اعتقادا بأن السيد المسيح قام بعجيبة شفاء صبي مصاب بالصرع وأنه ترك تلاميذه هنا وصعد إلى الجبل (الطور) مع ثلاثة منهم وهم بطرس ويعقوب ويوحنا. ويوضح فوزي ناصر لـ «القدس العربي» عن مصادر قدسية المكان وأهميته. ويقول ناصر في هذا المضمار إن هناك اعتقادا بأن السيد المسيح تجلى فأشع وجهه كالشمس وتلألأت ثيابه كالنور وتراءى له موسى وإيليا (متي 17) فدعي الجبل جبل التجلي أما الطور فكلمة تعني برأيه «الجبل» بها دعي أربعة جبال هي: سيناء، الزيتون، هارون وجرزيم.
من جهته يوضح زميله المرشد صالح خلايلة أن شعوب المنطقة اهتمت بهذا الجبل البارز فأقامت المذابح والمعابد وحين قامت الدولة البيزنطية بنيت كنيسة وتم شق طريق بينها وبين الناصرة. كما يوضح خلايلة لـ«القدس العربي» أن الصليبيين بنوا في الجبل تحصينات قوية هدمها الأيوبيون في نهايات القرن الثاني عشر واستبدلوها بتحصينات خاصة عام 1212 وما لبثوا أن هدموها بعد خمس سنوات خوفا من استفادة الصليبيين منها عند عودتهم.
الفترة العثمانية
ويضيف «من بقايا هذه التحصينات باب الهوا الذي يدخله الزائر قبل وصول الدير الفرنسيسكاني». كما يوضح خلايلة أنه مع انهيار دولة المماليك أمام الزحف العثماني خضعت المنطقة لحكم اسطنبول، وفي 1799 جاء نابليون بونابرت خلال حملته على الشرق وفشل في محاصرة قمة جبل الطور مثلما فشل على أعتاب أسوار عكا. كذلك يشير لعودة رهبان الفرنسيسكان للجبل في الفترة العثمانية حيث أسسوا كنيسة وديرا بإذن خاص من الأمير فخر الدين المعني عام 1631 أما الكنيسة الحالية فقد أقيمت على أنقاض سابقتها عام 1924. على غرار فوزي ناصر يقول خلايلة إنه قبل ذلك وتحديدا عام 1911 بني دار الروم الأورثوذوكس على أنقاض كنيسة بيزنطية وهناك مغارة تحمل اسم ملكي صادق المعاني وتحمل اسم مار الياس (إيليا الذي تراءى للمسيح فوق جبل طابور).
البدو يطلبون التنصّر
كما هو الحال مع قبائل بدوية فلسطينية كثيرة تم تهجير قبيلة عرب الصبيح شمال جبل الطور بل قتل عدد كبير من أفرادها، لكن فرعا منها المعروف بالشبيلي بقي بمحاذاة الجبل داخل بيوت الشعر وبعض البيوت الحجرية ومع الأيام زاد تعدادها وصار مكان سكناهم قرية تعرف بعرب الشبلي. ويروي ابن بلدة عرب الشبلي عيسى محمد عونه لـ«القدس العربي» أنه في 1954 فرضت الشرطة الإسرائيلية بالتعاون مع الحاكم العسكري حصارا على سكان عرب الشبلي حتى تعاد أسلحة سرقت من مخازن سلاح مشترك لمستوطنتي كفار طابور وشدموت دفورا اشتبه بسرقتها من بعض سكان القرية. الشرطة الإسرائيلية لم تعتقل أحدا من عرب الشبلي لكنها فرضت طوقا على القرية ومنعت سكانها من مغادرتها لأي هدف حتى للعلاج الطبي واعتقد وجهاؤها أن أمامهم منفذا للخلاص من الحصار فقاموا بالتسلل تحت جنح الظلام وطرقوا أبواب جيرانهم الرهبان الفرنسيسكان في دير جبل الطور، موقع تجلي الرب وفق التقاليد المسيحية. وهناك قدم الرهبان شكواهم وطلبوا المساعدة وأكدوا استعدادهم لاعتناق المسيحية إن أنقذهم الرهبان من الحصار. وهذا في المناسبة ما يؤكده الكاتب الصحافي عطا الله منصور في مذكراته: «حفنة تراب» حيث يشير عطا الله في كتابه لكيفية انتهاء الحصار ويرى أن الدير لم يأخذ مقترح عرب الشبلي بالتنصر بجدية بقوله «لم يتوقع الرهبان أن يرتد البدو عن دينهم الإسلامي وتحمل تبعات الرّدة لكن هذه القناعة لم تفت من عضد الرهبان ولم تمنعهم من تقديم ما بوسعهم لمصلحة جيرانهم وهؤلاء من طرفهم قاموا بتسريب الموضوع للصحافة والرأي العام فأثير الموضوع في الكنيست وألغي الحصار عن سكان القرية وعاد سكانها لممارسة نشاطاتهم العادية.
لكن بعض أهالي عرب الشبلي يتحدثون عن مضايقات بدأت قبل قضية سرقة السلاح واستهدفت الترحيل ربما نتيجة تغيير الموقف من عرب الشبلي، فيقول رشيد مزعل حمد التركي إن الضغط عليها لم يتوقف منذ نكبة 1948 على خلفية انتمائها بالأصل لعشيرة الصبيح التي قاومت اليهود بقوة ما تسبب بهجرة أغلبيتهم لسوريا والأردن، فصارت الشرطة العسكرية تطلق الرصاص على بيوتهم وصادرت أراض لهم.
وطبقا لعيسى عونه فإنه بالنسبة للتركي فإن دير جبل الطور حاول فعلا إدخالهم في المسيحية، فيقول إن كل هذه الضغوطات أدت لفكرة مطالبة البابا في روما بمساعدتهم عن طريق رهبان دير جبل الطور والناصرة وإن الجميع اتفقوا على الحل وشكلوا نخبة عنهم (رشيد مزعل، محمد حسين أسعد، عبد خليوي مزعل ومحمود أسعد محمد) تحدثت مع الخوري في جبل الطوري والناصرة. ويضيف في شهادته «وفعلا بعد مدة أرسلت لهم الطائفة المسيحية من ميزانيتها أكياسا مليئة بالملابس الإفرنجية المستعملة وعندما استلمها الناس قالوا للخوري بأنهم ليسوا بحاجة لمثل هذه الألبسة لأنهم بدو ولا تلائمهم ومن المستحسن إرسال ملابس جديدة وثمينة حتى تقدرهم القرى المجاورة وتحذو حذوهم».
اعتناق النصرانية؟
ودون ذكر تاريخ يوضح أن هذه اللقاءات «التبشيرية» بين اللجنة وبين الكهنة من جبل الطور والناصرة استمرت و«قلنا لهم إننا من بقايا الرومان قبل الإسلام ونحن أسلمنا بالسيف ولم نكن عربا بالمرة يا سعادة الخوري. كان هناك من عارض الفكرة. أن العشيرة تتجه لاعتناق النصرانية فيما عرف البعض الآخر بالخطة وحاولوا التخريب فأبلغوا الحاكم العسكري في الناصرة وشرحوا له الخدعة وعندها كفت لجنة المفاوضات عن ملاحقة الموضوع خوفا من انكشاف الأمر وفي المقابل خفت الضغوط على العشيرة».
ليس هذا فحسب إذ ينقل ابن عرب الشبلي الكاتب عيسى عونه عن الشيخ عبد حميدي سالم الظلمي قوله في شهادته إنه أخذ جده للجبل مع محمود الرشدان وحسين الأسعد محمد وكان أحد القساوسة يأتي لبيت محمد حسين الأسعد ويلقي الدروس وأنا ومحمد سعيد ذياب العونه كنا نصلي مع هؤلاء. ويشير الكاتب أنه شاهد بنفسه صورة للسيدة العذراء في مضافة محمد حسين الأسعد حتى ستينيات القرن العشرين. وبلغة التودد يقول عيسى العونه في كتابه إنه من ضمن الدروس في الدين المسيحي سمع المشاركون من أبناء عشيرة الشبلي الرهبان يتحدثون عن معجزة السيد المسيح ونجاته عندما قفز من جبل القفزة في الناصرة لجبل الطور، فرغب أحد المشاركين التأكد بالتساؤل: يا أبونا هل فعلا قفز السيد المسيح؟ فقال الخوري: نعم هذا صحيح. فقال الحضور: اللهم صلي على سيدنا محمد. فكان خلف الخوري راهب آخر يعض على أصبعه كي يلفت نظرهم للكف عن قول ذلك بهدوء. ويضيف «من كثرة شروحات القسيس سيطر النعاس عليهم فناموا وبعدما استيقظوا ردد بعضهم مقولاتهم اليومية «لا إله إلا الله محمد رسول الله». فعض خوري الدير على إصبعه مرة أخرى وقال لهم: لا يقال مثل هذا الكلام أمام القس الأكبر. ولكنهم كلما تعجبوا من معجزة ذكروا الله ورسوله، وعندها قال لهم الخوري: انصرف أنت وإياه من هنا، لا فائدة منكم بتاتا وهكذا انتهت المحاضرة بلا عقيدة».