كن منتخبا وديمقراطيا ومجرما… لا بأس!

مع أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان وضع قادة الاحتلال والمقاومة في نفس السلة وهو يطلب إصدار مذكرة توقيف دولية في حق كل من يحيى السنوار ومحمد ضيف وإسماعيل هنية من حركة «حماس» وبنيامين نتنياهو ويوآف غالنت من الحكومة الإسرائيلية بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إلا أنه من المناسب أن نرى كيف استقبلت «حماس» ذلك وكيف استقبلته «إسرائيل».
حركة «حماس» استنكرت بشدة «مساواة الضحية بالجلاد دون أساس قانوني» في «مخالفة للمواثيق والقرارات الأممية التي أعطت الشعب الفلسطيني وكافة شعوب العالم الواقعة تحت الاحتلال الحق في مقاومة الاحتلال بكافة الأشكال بما فيها المقاومة المسلحة». أما كل الطبقة السياسية الإسرائيلية فقد أجمعت على مهاجمة المحكمة والمنظومة الدولية التي تنتمي إليها معتبرة ما جرى «خطأ تاريخيا» و«وصمة عار على نطاق عالمي» متهمة إياها بالخصوص بمعاداة إسرائيل والسامية، لكن مع تركيز خاص على أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال مساواة «شخصيات منتخبة في حكومة ديمقراطية هي الديمقراطية الوحيدة في المنطقة» بحركة «إرهابية».
هنا يتضح أن الاستنكار الفلسطيني للتمييز بين قوة احتلال وشعب يرزح تحت بطشه، له رغم كل شيء، سنده القانوني في التشريعات الدولية، بينما الاستنكار الإسرائيلي لا سند له، ليس فقط لهجومه الكاسح على المحكمة والطعن في نواياها وصدقيتها وإنما بالخصوص في اعتبار «إسرائيل» نفسها محصنة من أية ملاحقات دولية مهما كانت، فهي لأنها «ديمقراطية وحكومتها منتخبة» فلا يقبل أن تلصق بها تهم لا تليق إلا بحركة «إرهابية»!!
هذا منطق غريب وغير مسبوق، بمعنى أن الجريمة حتى وإن كانت واضحة وموثقة فلا يجوز أن توجه لجهة منتخبة وديمقراطية، وهذا يعني في النهاية أنه بإمكانك أن تكون مجرما بلا حدود لكنك مع ذلك محصن لأنك منتخب وديمقراطي وبالتالي لا يجوز مساواتك بآخر ارتكب نفس الجرائم وعليه أن يلاحق عليها ويعاقب فقط لأنه مصنف «إرهابيا»!!

الاستنكار الفلسطيني للتمييز بين قوة احتلال وشعب يرزح تحت بطشه، له رغم كل شيء، سنده القانوني في التشريعات الدولية، بينما الاستنكار الإسرائيلي لا سند له

المصيبة أن هذا المنطق الأعوج والمتغطرس تبنته الولايات المتحدة هي الأخرى فوزير خارجيتها أنتوني بلينكن رأى أن مساواة إسرائيل بـ«حماس» في الجرائم وطلب مذكرات الاعتقال «أمر مخز» فيما وصفه البيت الأبيض بـ «الشائن» في وقت مضى عدد من أعضاء مجلس الشيوخ من الجمهوريين بالخصوص في حملات ردح حقيقية ضد المحكمة وصولا إلى تهديدها بانتقام مقبل، يبدو أنه قد شرع في السعي إلى بلورته في الأوساط التشريعية.
من حسن الحظ أن هذا المنطق لم يتفش في كامل الأوساط الأمريكية ولا الغربية من ذلك مثلا أن السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز، وفي خطوة تختلف عن زملاء له اتسمت بالتهديد والوعيد من أمثال لندسي غراهام وتيد بود وجايمس ريش، اعتبر أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية «على حق في إصدار أوامر اعتقال بحق القادة السياسيين المتورطين بارتكاب جرائم حرب» وأنه «يجب احترام القانون الدولي وبدون هذه المعايير فقد ينزلق العالم بسرعة إلى الفوضى والهمجية والحروب المستمرة».
وعلى عكس دول أوروبية سايرت نفس المنطق الأعوج الإسرائيلي والأمريكي، مثل المجر والنمسا والتشيك، جاءت مواقف فرنسا وألمانيا وبلجيكا وإيرلندا بل إن باريس ذهبت إلى أبعد من ذلك حين قالت خارجيتها إنها كانت حذرت إسرائيل «بضرورة التزامها الصارم بالقانون الإنساني الدولي، وخاصة المستوى غير المقبول للضحايا المدنيين في قطاع غزة وعدم وصول المساعدات الإنسانية بشكل كاف».
وفي ضوء ما قاله جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي من أن «جميع الدول التي صادقت على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ملزمة بتنفيذ قرارات المحكمة» فإنه من المتوقع أن يعطي التعاون الأوروبي في تطبيق مذكرات الاعتقال، حين صدورها، زخما كبيرا لعملية ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين.
مشهد يبدو أنه سيزيد في تعميق الفرز الدولي مما يجري وسيزيد في جعل الولايات المتحدة الوحيدة التي تبقى على تأييدها الأعمى للسياسات الإسرائيلية، ففي أي وضع ستجد الإدارة الأمريكية نفسها إذا ما مضت مذكرات الاعتقال قدما وأصبح نتنياهو وغالنت ممنوعين من السفر وزيارة العواصم العالمية، عدا عن مذكرات سرية قد تصدر في حق آخرين، وبعضهم قد يزور واشنطن نفسها، من يدري؟ وفي أي وضع ستجد الإدارة الأمريكية نفسها إذا ما أدانت محكمة العدل الدولية في لاهاي إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية في حين ما زال الرئيس بايدن ينكر ذلك حتى قبل يومين فقط؟
العالم يتغير بسرعة والمد التضامني والحراك الطلابي المتصاعدان يدفعان بقوة نحو ذلك ما سيعري أكثر فأكثر «الفشل الأخلاقي» الذي سقطت فيه عواصم كبرى وسياسيوها وسينهي، وهذا هو الأهم على الاطلاق، حالة الاستثناء التي كانت تحظى بها إسرائيل لعقود.
إسرائيل وقادتها في ضنك حقيقي هذه الأيام، أما السنوار والضيف، فكما كتب موقع «مسار» الفلسطيني «فلن يكترثا للأمر، لسبب بسيط أنهما قررا الموت أو الحياة داخل غزة، ولا يفكران في قضاء إجازة رأس السنة في لاس فيجاس».

كاتب وإعلامي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية