لا أتحدث عن كوابيس حربية كما من زمان.. بل عن الكوابيس اليومية المعيشية.. هذه الكوابيس التي تنخر في الأعصاب ببطء واستمرار ولا ملجأ آمناً يقيك منها.. في بيروت أنت لا تكتب الكوابيس، لأنها تكتب نفسها وتمليها عليك! وأكتب اليوم ما أملته عليَّ!
المغتربة تقبل دعوة صديقتها منذ أيام الدراسة لقضاء ليلة في بيتها في بلدة «جونية» القريبة من بيروت، وهي ذات الخليج البديع المشهور عالمياً بجماله، وقبلتْ الدعوة، فقد كانت تشارك صديقتها في الغرفة في القسم الداخلي للبنات (بستاني هول) في الجامعة الأمريكية، ولم تذبل صداقتهما على مر الأعوام. زحام السيارات بين بيروت وجونية مهرجان موسيقى من أبواق السيارات والشتائم المتناثرة بين السائقين. وبعد ساعة ونصف من الزحام في درب يفترض أن لا تستغرق أكثر من 25 دقيقة إذا كانت خاوية- وصلت. صارت الضيفة تتنفس بعمق بعد هربها من هواء بيروت الملوث ولو ليلة واحدة. في اليوم التالي عادت إلى بيروت في سيارة صديقتها مع السائق الذي كان يسعل بشدة.
في «اتوستراد الدورة» قبل الوصــــول إلى مدخـــل بيروت، توقف السير المزدحم عن الحركة وتحولت الشوارع إلى مرآب كبير لمئات السيارات التي صارت عاجزة عن متابعة الدرب. وبين تلك السيارات سيارة فيها امرأة يحاول زوجها نقلها إلى المستشفى، لإنجاب طفلها!
صارت المرأة تصرخ ألماً بعدما تعذر على زوجها أن يتحرك بالسيارة إلى المستشفى. اتصل (بالشرطة)، أرسلوا له أحدهم على دراجة نارية لتفسح السيارات الطريق لها. صارت سيارات أخرى تلحق به كما في غابة لا تعرف مخلوقاتها الرحمة. السيدة المسكينة ولدت في السيارة! وقد يكتبون في التذكرة اللبنانية لطفلها: مواليد «اتوستراد الدورة» بدلاً من مواليد بيروت!
ها هو شاب بارد الأعصاب مثل المغتربة التي نامت في بيت صديقتها في جونية ووجدت نفسها لساعات في فخ زحام السير. ها هو الشاب يضع نارجيلته فوق سطح سيارته ويدخن..! ها هم شبان ضاحكون يقومون بحلاقة شعر أحدهم في الشارع وسط الزحام. ها هي شابة تشتم بيروت بكلمات بذيئة أمام كاميرا أحد تلفزيونات لبنان. أسلوب مواجهة الناس لفخ زحام السير طوال ساعات يعري حقيقتهم الداخلية، وقل لي ماذا تفعل في زحام كهذا أقل لك من أنت!
عادت المغتربة من ضيافة صديقتها وقررت أن ترى النصف الممتلئ من الكأس، وهو أنها التقت صديقتها وتنفست هواء نظيفاً، ولكنها قرأت في جريدتها قبل أن تنام أن هواء جونية بالغ التلوث!! بل إن جونية تحتل المرتبة الخامسة عربياً من حيث التلوث، والـ 23 عالمياً! والتلوث هو من ثاني أوكسيد النيتروجين «المسرطن».
قررت المغتربة أن تقوم بتدليل نفسها بممارسة نزهتها المفضلة على الرصيف لصق البحر في «الرملة البيضاء». ولما حان وقت ذهابها كانت صنابير السماء مفتوحة بمطر بالغ العنف. اختارت البقاء في وكرها وهي تتأمل البحر من نافذة بيتها بحسرة. لم يخطر ببالها أن شاطئ «الرملة البيضاء» تحول إلى نهر من القاذورات والمياه الآسنة بعدما انفجرت أنابيب المجارير وصارت قذارة المدينة تنبع من أرض الشارع في «الرملة السوداء»! وتعذر حتى المرور بالسيارات منها، ولعلهُ كان لا بد من الزوارق أو (الجندول!) كما في مدينة فينيسيا، وشر البلية ما يُضحك.
ماذا حدث؟ من الذي سد المجارير بالإسمنت فانفجرت وأخرجت نهراً من القذارة؟ أحدهم من كبار «المسؤولين» فعل ذلك بعدما قبض الثمن من أصحاب منتجع يرغبون في أن يظل ماء البحر عندهم أقل قذارة..! وهنا تتطاير التهم بين «أهل الشأن»، ويتم تبادلها ويقررون فتح التحقيق في ذلك.. ومن البطل الذي سيفعل ذلك دونما خوف من ترهيب هذا أو ذاك.. وكعادة بيروت، «ملكة النسيان» ستأتي كوارث أخرى يتلهى الناس بها.
…ولما يأت بعد (البطل) الذي يحرر بيروت من الظلام؛ فبعدما كانت الكهرباء تنقطع ثلاث ساعات في اليوم ظهراً صارت ترحل عدة مرات في اليوم.. الأمر الذي يخرب الأدوات الكهربائية كلها ويُسعد الصراصير التي تعشق الظلام، ويُكرم حارمي بيروت من الضوء. المغتربة التي جاءت لزيارة عاداتها الحربية بعد إقامة خارج لبنان نسيت أن تحتاط لذلك، ولم يكن أمامها غير معاشرة الظلام ريثما يطلع الفجر بضوئه.
وهنا لاحظت أمراً يشبه إعلاناً على الجدار فوق (الشوفاج) للتدفئة.. كانت المغتربة من زمان تضع الشموع فوقه فاتسخ الجدار بهبابها شهراً بعد آخر. وحين توقفت الحرب أعادت دهن بيتها بالأبيض بما في ذلك هذا الجدار. لكنها فوجئت بأن آثار الشموع عادت إلى الظهور على الجدار كأنها رسالة من مملكة الظلام أو لافتة إعلانية تقول: لا نجاة لك من العتمة.
ذهبت المغتربة للمشي في «شارع الحمراء»، وكان من زمان شارع المقاهي (الثقافية) والدكاكين الأنيقة، والجميلات العابرات كسحابة عطر، والأدباء الذين يكتبون الشعر داخل رؤوسهم وهم يمشون.
وجدت أن شارع الحمراء صار شارعاً آخر.. تذكرت قصيدة الشاعر بيتس، وفيها يقول: كل شيء يتغير/ويتساقط الواحد منا بعد الآخر… كانت تردد ذلك بصمت. شاهدت على الرصيف الآخر الأصدقاء الأدباء الذين ماتوا قتلاً في الحرب أو قتلهم الزمن من بعد. شاهدتهم شباناً صغاراً كما كانوا يوم تعارفت عليهم. استعادوا وجوههم الشابة وانتصبت قاماتهم بزهو الصبا. فكرت بالذهاب إلى الرصيف الآخر ولقائهم بكل الشوق والمحبة الأخوية، لكن صوتاً صرخ بها (لعله قادم من أعماقها): لا تذهبي إلى الرصيف الآخر. حذار من الذهاب إليه، فلم يحن بعد وقت قطع الطريق! قررت أن تتلهى عن أصدقاء الرصيف الآخر بقراءة لافتات الدكاكين، فقرأت أكثر من لافتة أعادتها إلى زمانها ومأساة بيروت وواقعها، وتقول: «كل شيء بسعر خمسين في المئة» أي بنصف السعر.. ها هو الوجه الآخر للمأساة، لكنه واقعي، ويعني ببساطة نصف لقمة الأسرة. أما الذين يدعونهم بالمسؤولين، فمعظمهم مشغول بجمع المال! الشعب؟ هذه كلمة لا يحبها معظمهم.
كالبدرأشرق ساطعا
وطيور حبك رفرفوا