الألم كمادة رئيسة:
تنحاز رواية عبد الله القصير «كوابيس مستعملة» إلى الألم، إلى استبطانِ قوته، إلى استنطاقهِ ككائن بذاتهِ أو ثيمة محرّكة، صراعية، ثيمة الحرب، التي تكون بالضرورة مادة رئيسية وليست نافلة، فالحبّ له علاقة بالألم، الأمل مرتبط به، الآمال والطموحات، وشواطئ الأمان التي واقعاً وافتراضاً في الرواية تصبحُ بعيدة المنال، المشهد برمته تصنعه عدسة متألمة سمعت ورأت، عايشت وتعايشت وروت، ولهذا تكاد تكونُ خلفية اللوحة متفجّرة ومتشظية نارية، وما المسافات الباردة بين حريقين إلّا إعادة لضبط النفس، أو لأخذ نفس عميقٍ كافٍ، لاجتراح المأساة، ليس كسرد وحسب، بل كأسلوب ومناورة، سيتبينهُ قارئ مجتهد من ذلك الخداع المدروس الذي ينتهجه الراوي، في إلغاء الحجب الفاصلة بين الواقعي والمتخيّل، بين الحقيقة والوهم.
رواية تجنيس وليست (كوكتيل) أجناس:
تكثرُ الحكايات، سواء المرتبطة بالكوابيس، كوابيس البطل (عطايا)، وربّما كوابيس الراوي عبد الله لو تفهمنا تلكَ الإشارة المرتبطة بإلغاء المسافة بين المتخيل والواقعي، أو الأحداث المشتقّة من الحرب بوصفها المادة الأهم، ومن ثمّ انتظامها في دائرة دلالية معروفة، لتسهل متابعة الشخوص وحيواتهم بدونَ التيه في تقانات الكتابة، قُسّمت الرواية إلى أربعة فصول، تنحدر من كلّ فصل عناوين فرعية، ما أعطى العمل ككل، تقطيعاً سينمائياً، رفدت الشحنات الشعورية بمشاهد تكاد تكون بصرية. لا نجاة من الفضفضةِ أحياناً، لعلّها استراحات المحارب، إذا انطبقَ التعبير على «كوابيس مستعملة»، غير أنّها وفية إلى حدّ كبير لحالة السرد والفكرة ومركزية المتن الحكائي، حين تتلاقى الحكايات وتتشابك في خطوط بيانية، وفي بؤرة محورية واحدة، هي نقطة التصعيد ومن بعدها الانغلاق، وهكذا في مداورة وتبادل إدوار، للوصول في النهاية إلى رسم ملامح التشظي أو الذهان أو البارانويا السورية، من خلال قصة عطايا أسير كوابيس الأثاث المستعمل، وهو يمدّ جسراً روحياً بينهُ وبين أصحاب الأسّرة والمرايا وشاشة التلفزيون، إذن هي قصة الآلاف، ربّما الملايين الذين لم يموتوا ميكانيكياً، وماتوا ميتات كثيرة وبأدوات متعددة.
نجح عبد الله القصير في إشاراته إلى حالة لائذة لم تستوف حقّها، حين نقرأ معظم الجهد الذي بذلَ بعد ثورة السوريين على أعتى نظام أمني استبدادي، بأنّه تناول شتمِ المنظومة في حينها.
رواية وليست خلطة كتبها القصير منتصراً لكوابيسه، وبالتالي لسوريته، أراد قول الفكرة، أو أخرجها من الموات إلى الحياة، عالجها بأداة السارد الذي يوهمك بأنّه هو بطل قصته، وهذا الروي سيرته الذاتية في زمن الثورة والحرب، وهو بهذا التبئير يفارق بعض زملائه الذين استعجلوا الرواية بعد 2011، استفادة من الحالة الإعلامية، بحيث يمكن قبول الأقل فنياً لصالح الفكرة المثالية التي تتغنى بالبطولات أو الهزائم، فجاءت تلك التوليفات أشبَه بمكّب ترمى فيه المقالة والطرفة والنكتة وشبه النّص الشعري ورسائل (الواتس أب) و(بوستات الفيسبوك).
كقراء نستطيع تفهّم أنْ يُعدّ من عدةِ سلال فواكة سلة تجمع عدة أنواع ونقول عنها: سلة فواكه، ويمكن من عدة سلال تين نعدّ سلة تين من الأجود، ونقول عنها: سلّة تين!
نجح عبد الله القصير في إشاراته إلى حالة لائذة لم تستوف حقّها، حين نقرأ معظم الجهد الذي بذلَ بعد ثورة السوريين على أعتى نظام أمني استبدادي، بأنّه تناول شتمِ المنظومة في حينها، وبعدها راح تجاه مسائل النزوح والشتات واللجوء، على أنّ «كوابيس مستعملة»، عرّت جانباً نفسياً غير الجوانب المرتبطة مباشرة بالخوف والعبور من ضفة إلى أخرى، وإن رأى المتابع أهمية هذه القضايا، إلّا أن اجترارها جعلها أقلّ وهجاً وفائدة في صناعة القصة أو التأثير، وهو ما نأى عنه إلى حدّ معقول الروائي في «كوابيسه المستعملة».
شعرية الألم:
في روايته الصادرة 2019 عن دار فضاءات، يدوّن القصير كوابيسه في 236 صفحة من القطع المتوسط، حكايته تبدأ من تعرضه لإطلاق نار واختراق ثلاث طلقات لصدره، ليكون آخر ما يراه قبلَ أن يفقد وعيه» حماة الديار» يعفشون منزله بالكامل، ليكون سلعة رخيصة في محلات المستعمل في دمشق، والمعفشون مفهوم صار متداولاً ولا يقلّ بشاعة عن» التشبيح».
لا تسير رواية كوابيس مستعملة بوتيرة واحدة، فالانتقالات الكثيرة جغرافيا، جعلت الانتقالات في الأفكار واللغة أيضاً كثيرة، في القسم الأول عطايا وكوابيسه.
تتكثّف الرواية في الجزء البدئي الأهم، وتكون شخصية عطايا، شخصية رومانسية، موجوعة، وأقرب إلى المثالية، في حين زوجته ظبية تكون أكثر واقعية وحكمة، في المنولوجات التي يفعلها بطل الرواية مع شخوص الأثاث المستعمل، أو لنقل كوابيسه المتعلقة بهم، يصل حدّ التماهي معهم ومع قصصهم، كقصة أمّ سليم، التي ترى بأمّ عينيها قصف الطائرات لسوق الخضار، وتعرف بوجود ابنها سليم هناك، وفي عملية البحث عنه بين الأنقاض، تشعر بأنها هرست عيناً، تخالها عين سليم، تتداور القصص، وهي وإن لم تكن شعرية من حيثِ التكثيف اللغوي، لكنها شعرية المفارقة المؤلمة، وهو نفسهُ المشهد الذي يرسمه القصير ليدلل على إنّ الحياة ممكنة في أبهى رصدٍ يمكن تبينه في الخوف، عندما يتحمّل «البلم» أكثر من استيعابه، وفي عرض البحرِ، وبينما الجزء الخلفي من قارب الموت يبدأ بالغوص في الماء، ويتعالى صوت صراخ الطفلة، ليختفي الصراخ بعد لحظات تماماً، يرى الراوي كيف أنّ الأم كانت غائصة في الماء، بينما تلقم ثديها لفم طفلتها، سكوتُ الطفلة وسدّ جوعها لم يكن موتاً كما تخيّل عطايا، بل كان إيماناً بالحياة.
لا تسير رواية كوابيس مستعملة بوتيرة واحدة، فالانتقالات الكثيرة جغرافيا، جعلت الانتقالات في الأفكار واللغة أيضاً كثيرة، في القسم الأول عطايا وكوابيسه. في القسم الثاني وهو الأقل تكثيفاً وبمساحات رخوة تتخلل السرد، تحضر» آنيا» الألمانية كامتداد للكوابيس، إضافة إلى إجراء فعل المثاقفة والتغريب الذي عالجته الرواية بشكل موفق، وما ينطبق على آنيا ينطبق على الشخصية المحورية (رالف) الذي يجيد اللغة العربية وثقافتها وأنماط معيشة السوريين تحديداً، وهذا الفهم بدا كنموذج جَسّرهُ الألماني، ليشيدَ علاقة طيبة مع اللاجئ خارج استثمارات القوى العنصرية في استثمارها قضايا اللجوء!
رواية «كوابيس مستعملة» حافظت على روح الحكاية، وطرحت فكرة التشظي بجدارة، وبها نكون أمام عمل مختلف، لا يكتفي بسردِ حكاية عن اللجوء أو الحرب هناك، وإنّما يبصّر بماوراء الحكاية ذاتها، وفي الوقت نفسه لا يمكن لقراءة احتفائية أن تلمّ بكلّ جوانبها.
٭ شاعر وناقد سوري