كورونا: التعليم عن بعد؟

حجم الخط
3

دفعتنا الجائحة إلى التوقف، وعلى انتهاج سبيل آخر في التعاطي مع ما ألفناه أدهرا. ظهر حماسٌ جديد، وتنافس بين المؤسسات الجامعية وغيرها في أيها أكثر استعدادا لمحاربة الجائحة؟ وتفتقت المواهب عن تجريب «التعليم عن بعد»، وحتى الأساتذة صاروا يتبادلون مواقع المكتبات الإلكترونية العالمية، ويقترحون على بعضهم الكتب التي يمكن أن يطلعوا عليها في الحجر الصحي؟ أكانت الجائحة ضرورية لتنبيهنا إلى أننا كنا خارج الزمن الأكاديمي؟
بدأت تظهر الحواسيب الشخصية المتصلة بالفضاء الشبكي، منذ أكثر من عشرين سنة في المجال العربي، لكن الإحجام ظل هو السائد في التعامل مع منجزات الثورة الرقمية، من لدن المثقفين والجامعيين. وها نحن نجني ثمار هذا الإحجام. لقد دفعني اشتغالي بالسرديات، من منظور علمي، إلى الانخراط في هذه الثقافة الرقمية، التي تنهض على أساس العلم والتكنولوجيا، منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي، لأنني رأيت أنها تمثل حقبة جديدة في تاريخ البشرية.
وكانت الفكرة التي دافعت عنها منذ أن بدأت الكتابة في هذا الموضوع تتجلى في أننا أمام عصر جديد، لا يختلف عن عصر النهضة العربية. وعلينا أن نحسم في دخول هذا العصر، وأن لا نتردد كما فعلنا سابقا، حيث استنزف النقاش حول ثنائية الأصالة والمعاصرة مجهوداتنا الفكرية والسياسية، بدون أن نصل إلى نتيجة. وبينت أن أي تأخر في دخول العصر لا يمكن إلا أن يضاعف من تخلفنا.
خلال هذه السنوات العشرين، حصلت تطورات لا بأس بها، ولكنها لم تكن بالصورة التي تجعلنا فعلا ننخرط في الثقافة الرقمية، إسوة بدول وشعوب حققت تطورات كبيرة، وتتيح لنا عدم الحديث عن الفجوة الرقمية، بيننا وبينهم.
جاءت جائحة كورونا، ومع الحجر الصحي، وإغلاق المؤسسات التربوية والجامعية، طُرح علينا «التعليم عن بعد»، وهو يرتبط ارتباطا قويا بالثورة الرقمية، فوجدنا أنفسنا خارج السياق الرقمي. فكيف يمكننا ممارسة هذا النوع من التعليم في غياب بنيات تحتية ملائمة، وتكوين تربوي وتعلمي جديد، واستعداد نفسي واجتماعي وثقافي مختلف، لدى طرفي العملية التربوية، يجعل إمكانية الاستفادة من هذه التجربة مفيدا، ومحققا للغاية؟

لقد فرضت علينا الجائحة تجربة كان علينا أن نخوضها ونفكر فيها منذ مدة طويلة، ونوفر لها كل الأسباب العلمية والتقنية والثقافية والاجتماعية والمؤسسية، حتى تتحول إلى واقع.

لقد ظل تعليمنا العربي يقوم على أساس تقديم المعلومة على تحصيل المعرفة، والتلقين على التفاعل، ولذلك لم نطور تجارب بيداغوجية وتعليمية لنمط آخر من التعليم، يمكن أن يكون تمهيدا للتعليم الرقمي. لقد جاء هذا التعليم الجديد في بيئة وسائطية جديدة، تقطع مع اجترار المعلومات، والطرق التقليدية في التواصل مع التلميذ والطالب. لم نتطور في صناعة البرمجيات، ولم نأخذ بأسباب الطرق التربوية المتصلة بالوسائط الجديدة. لم نستوعب جيدا أن وسيطا جديدا للتواصل يفرض تعليما جديدا، ومنظورا جديدا للتربية. لذلك فإن كل ما قمنا به ونحن نحاول توظيف التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل هو، أننا نشتغل بذهنية قديمة في بيئة جديدة.
صار بعض الأساتذة يوظفون تقنيات العارض الإلكتروني، وشرائح الباوربوينت حتى قبل الجائحة، ولكن بطريقة تقليدية لا تتلاءم مع الوسائط الجديدة لغياب تكوين حقيقي يتلاءم مع متطلبات الحقبة الجديدة. فالمؤسسات التعليمية غير مجهزة، والتلاميذ والطلاب غير مستأنسين بهذا النوع من التعليم. ويمكن قول الشيء نفسه عن الأساتذة، الذين يجتهدون في غياب تكوين دقيق في استخدام هذه التقنيات.
إن المنصات الجديدة التي توفرها التكنولوجيا الجديدة لم يتم التعامل معها إلا على أساس أنها «سبورات» مختلفة عن السوداء أو البيضاء التقليدية. أما المحتوى فهو واحد لم يتغير. ومع ذلك نجدهم يتحدثون عن «التعليم عن بعد»؟
إن المفارقة الكبرى التي تضعنا فيها هذه التجربة الجديدة، التي فرضتها الجائحة تتمثل في سؤال واحد: ما هي طبيعة المقررات التي كنا نشتغل بها قبل الجائحة، والتي فرضت علينا الانتقال بها إلى تعليم «رقمي»؟ إن المقررات ذات طبيعة «ورقية»، تلقينية، وما قبل رقمية. فكيف يمكننا نقل تجربة تربوية ما قبل رقمية إلى وسيط رقمي؟ نحن إذن أمام جواب واحد، وهو: إننا نتعامل مع الوسائط الرقمية الجديدة على أنها وسائل فقط. لقد استبدلنا السبورة والدفتر، بالمنصة واللوحة الإلكترونية أو الحاسوب، وكفى. إن التعليم الشفاهي ليس هو الكتابي، وهما معا لا علاقة لهما بالرقمي. بدون ثقافة رقمية، ووعي رقمي، وبيداغوجيا رقمية، ورؤية جديدة للإنسان المتعلم والمعلم، وبنيات تحتية تكنولوجية ملائمة، لا يمكننا الحديث عن «تعليم عن بعد»، ولا عن تعليم رقمي.
لقد فرضت علينا الجائحة تجربة كان علينا أن نخوضها ونفكر فيها منذ مدة طويلة، ونوفر لها كل الأسباب العلمية والتقنية والثقافية والاجتماعية والمؤسسية، حتى تتحول إلى واقع. كما أننا لم نبذل أي مجهود للارتقاء إلى مستوى العصر الرقمي، الذي نعيش على هامشه. فهل درس جائحة فيروس كورونا مفيد عربيا، لتجاوز الإحجام والتردد لدخول العصر الرقمي؟ هذا هو الرهان، وهذا هو مدخل المستقبل الذي ينبغي أن تتوحد فيه الجهود العربية، لكي نتمكن في حقبة لاحقة من الحديث عن «تعليم عربي عن بعد» بصورة مختلفة جذريا، وإلا فإننا سنظل خارج العصر.

٭ كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول هيثم:

    شكرا للأستاذ يقطين ابن مدينتي على هذا التحليل للموضوع خاصة وأن هيئة التدريس في المغرب مع توقيف الدراسة في المؤسسات التعليمية مارست هذا التعليم عن بعد رغم الظروف غير الملائمة في كثير من الجهات ولدى كثير من الفئات.الفقرة ما قبل الأخيرة من المقال تلخص عمق القضية وهي بيت القصيد الذي يحتاج إلى التفكير والتدبير والإنجاز، خصوصا و أن زمن الكورونا أثبت أن كثيرا من المهام والوظائف يمكن أن تؤدى أنطلاقا من الرقمي الديجيتالي.

  2. يقول عبد الخالق الصفار:

    السلام عليكم، وأنا أقرأ هذا النص تبادر إلى ذهني مجموعة من التجارب الفردية المبكرة (بدأت في مطلع التسعينيات) لزملاء يدرسون في السلك الثانوي التأهيلي. هذه التجارب كانت وما زالت على وعي بالفرق بين التعليم بوسائله التقليدية والتعليم المرتكز على الثقافة الرقمية الغائبة تماما في منهاج تكوين المدرسين! عندما كان هولاء المجتهدون يحاولون إثارة انتباه المسؤولين عن التعليم لم يحصدوا إلا التجاهل أو السخرية أو هما معا (على أساس أن ذلك يتجاوز إمكانياتنا وأن المدرس دوره تنفيذ ما هو مسطر وليس الإتيان بالجديد!).

  3. يقول عشاكي:

    في سياق هذا المقال الذي أيقض الدن او الراقود المتمثل في نفور منظومة التربية والتعليم من رقمنة العملية التعليمية والسفر بها في عوالم تكنولوجيا التعليم والتعلم أتساءل:هل التعليم عن بعد قدر إلزامي ام اختيار منهجي يفرضه واقع التربية المعاصرة ؟

إشترك في قائمتنا البريدية