“كورونا” بين التكبير والتهليل وترديد النشيد الوطني

أظهرت جائحة “كورونا” مجموعة من القيم النبيلة الموجودة بين أفراد الشعب المغربي، وفي مقدمتها استعدادهم الدائم للتضامن والتعاون والتآزر. وبينما يشهد الصندوق الخاص بتدبير انعكاسات هذه الأزمة، يوميا، ضخّ المزيد من المساهمات المالية من لدن الأفراد والمؤسسات، تنقل وسائل الإعلام لفتات إنسانية معبّرة، من بينها: وضعُ بعض الأسر بيوتها رهن الفرق الطبية العاملة في المستشفيات حيث يُعالَج المرضى، ونقلُ المُشرّدين إلى القاعات الرياضية المُغطّاة، وتكفُّل مُحسنين بعائلات معوزة، واستعدادُ بعض أرباب الفنادق لإيواء الأطباء أو المرضى في مؤسساتهم السياحية، وهلمّ جرا…

كما أبان الكثير من نساء ورجال الأمن عن سلوك حضاري في التعامل مع المواطنين ومع المُقيمين الأجانب (خاصة من البلدان الإفريقية جنوب الصحراء)، وصل إلى درجة توجيه التحية العسكرية للأسر التي نفّذت الحجر الصحي وظلّت في منازلها، علاوة على استعمال لغة إنسانية راقية في حثّ الناس على إخلاء الشوارع والأزقة وفضّ التجمعات.

بيد أن بعض المَشاهد الناشزة المتداولة في شبكات التواصل الاجتماعي (وهي قليلة جدا) تُحاول ـ للأسف ـ أن تكسّر تلك الصورة المشرقة، حيث يظهر رجال أمن يوجّهون صفعات قوية لشباب، لمجرد أنهم رفضوا الامتثال للأوامر بالدخول إلى بيوتهم. البعض يبرّر هذا السلوك غير المقبول بظروف الطوارئ الصحية والحرص على سلامة المواطنين، ولكنّ البلاد يحكمها قانون، وخارقو القانون تنتظرهم عقوبات زجرية تجمع بين السجن والغرامة المالية. وبالتالي، فالمسألة ليست مسألة مزاج وتصرّف فردي يواجه الانفعال بانفعال مثله أو أشدّ عنفا منه. وإذا كنّا هذا السلوك ونظيره منبوذا خلال سنوات الاحتقان السياسي في المغرب (ما كان يعرف بسنوات الرصاص)، فهل يُعقل أن يُقبَل اليوم تحت ذريعة معيّنة؟ والذريعة أن هناك طائفة من الشعب “تحتاج إلى إعادة التربية”، مثلما تجرأ رئيس حزب سياسي أن قال خلال تجمع جماهيري سابق على “كورونا”!

خطر التجييش

خطير جدا ما حدث، ليلة السبت المنصرم، في مدن طنجة وفاس وسلا، حيث تَحدَّتْ مجموعة من المواطنين حالة الحجر الصحي، وخرجت إلى الشوارع مرددة عبارات “التكبير” و”التهليل”، استجابةً لدعوة أُطلقتْ عبر شبكات التواصل الاجتماعي.

المتأمل في التعليقات المتحمسة لتلك الخطوة غير المحسوبة، أنها جاءت في سياق “تجييش” مكثّف متداول عبر “اليوتيوب” و”الفيسبوك” وغيرهما، يُروّج لأفكار وأحكام قيمة تستند إلى فهم خاص وخاطئ للخطاب الديني، وتعطي تفسيرات غيبية لجائحة “كورونا”. لكن الأدهى هو وجود مَن يعارض قرار إغلاق المساجد لكونها بيوت الله. ومن ثم، لوحظ إصرار البعض على إقامة الصلاة الجماعية قرب المساجد المغلقة.

المقاربة القانونية والأمنية لموضوع مثل هذه التجاوزات ضرورية وناجعة، ولكنها غير كافية لوحدها، بل لا بد من المقاربة الإعلامية والدينية، وفق المنظور المتنور للدين. وقد وجدنا التلفزيونات المغربية تستنجد في هذا المجال بالعلاّمة الدكتور مصطفى بنحمزة المعروف باعتداله وتبصره وعمق تحليلاته، حيث أكد على ضرورة إغلاق المساجد حفظا على أرواح الناس وسلامتهم البدنية، مستدلا على ذلك بأمثلة كثيرة من التاريخ الإسلامي.

إن ما حدث في طنجة وفاس وسلا من تجاوزات كان يمكن أن يؤدي إلى ما تحمد عقباه بحكم الاحتكاك المباشر بين المشاركين في مسيرة التكبير والتهليل، وهو ما يوفر فضاء مناسبا لانتشار عدوى “الفيروس”.

لا يمكن النظر إلى تلك الواقعة بوصفه حادثا معزولا، وإنما هو نتيجة لتراكم سنوات طويلة من الشحن الديني المغلوط الذي تمارسه قنوات تلفزيونية شرقية ذات توجهات وهابية متشددة، وأيضا مجموعة من قنوات “اليوتيوب” والمواقع الإلكترونية المتشبعة بهذا الفكر. والخطير أن الكثير من الناس يعتبرون أن هذا هو الإسلام الصحيح، لا سيما أن الممارسة الدينية في المغرب مرتبطة إما بطقوس موغلة في الرسمية والشكليات، وإما بالأضرحة والزوايا الدينية التي ترصد لها الدولة أموالا باهظة، لكونها تلعب أدوارا سياسية محضة، أسهب في شرحها عدة باحثين في كتبهم المختصة.

البعد الروحي

المغاربة عمومًا مُنشدُّون إلى روح الإيمان. لكن هذه الروح تحتاج لدى طائفة منهم إلى تدقيق وتبصر، حتى لا تؤثر عليها القراءات الشعبية أو المغلوطة أو المتشددة. وحيث إن ثمة تقصيرا ملحوظا في تقديم الصورة الحقيقية للإسلام كدين وسطية واعتدال، فإن التيارات المتشددة وجدت الطريق سالكا نحو بعض العقول والذهنيات البسيطة، وأَلْفَتْ مَن يتبنّاها ويروّجها لدى عموم الناس. ولو أن المسؤولين فكّروا في توظيف القنوات التلفزيونية وشبكات التواصل الاجتماعي لاستجلاء الصورة وتصحيحها، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من انحرافات في الفهم والسلوك والممارسة. إن ثمّة تفريطا واضحا في هذا المجال، وهناك مَن يتصوّر أنه يمكن محاربة التطرف والتعصب والتشدد فقط بالإكثار من حفلات الترفيه الفنية، ولكن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده؛ لا ينبغي أن يُفهم من ذلك وجود موقف معارض للفنون، أبدًا، ولكننا نرى أنه ـ بالموازاة مع الاهتمام الضروري بالفنون والترفيه والرياضة ـ يجب فسح المجال لعلماء الدين المتنورين، من أجل التواصل مع المجتمع، لا سيما الشباب، بلغة بسيطة وواضحة، سعيًا إلى تفادي أي اصطدام محتمل مع أصحاب الرأي المخالف أو الاعتقاد المغاير.

خلال الأزمة الحالية، ظهرت مواقف متعارضة ومغلوطة أساسًا: هناك مَن جعل التكبير والتهليل في موجهة النشيد الوطني، وهناك مَن جعل الدين نقيضا للفن، وهناك مَن جعل العلم متعارضا مع الدين. والحال أن الدين الإسلامي لا يتعارض مع العلم ولا ينوب عنه، كما لا يمكن للعلم وحده أن يكون حلا لأزمات الإنسان. في الآونة الأخيرة، أمام تفشي جائحة “كورونا”، لاحظنا مسؤولي بلدان غربية علمانية يناشدون الناس التوجه إلى الله بالصلاة والدعاء، كما سُمع صوت الأذان يرتفع في أكثر من بلد أوربي. مما يعني أن الإنسان في نهاية المطاف، حين يشعر بالعجز وانتفاء الحيلة، يبحث عن البعد الروحي ـ الكامن في زاوية ما من نفسه ـ طلبًا للخلاص.

فيروسات من نوع آخر!

تلجأ القنوات التلفزيونية المغربية إلى حسابات بعض الفنانين والمشاهير في مواقع التواصل الاجتماعي، لتستعير منها “الفيديوهات” التي أنجزوها من أجل المساهمة في توعية المواطنين بالمكوث في البيوت للحد من الجائحة. هذا الظهور لم يرق للإعلامي والشاعر المغربي جمال بدومة، فشنّ هجوما على المعنيين بالأمر من خلال آخر مقالاته، قائلا: “إن أصحاب تلك “الوصلات” نصبوا أنفسهم أطباء ووعّاظا، منهم الصادقون في مبادرتهم، ومنهم “العياشة” (المنافقون المتملقون)، ومنهم مَن استغلّ الفرصة كي ينتشر مثل الفيروس.” وأضاف الكاتب: “تصوّر أنك بلا مورد رزق، مجبر على البقاء في البيت، ولا تعرف كيف تتدبر عشاء ليلتك، ثم تطلع لك “فيروسات” تسدي لك النصائح حول الفيروس، وتعطيك دروسا في الحياة، وتمارس عليك الأستاذية! لا يعرفون أن فئة واسعة من المغاربة تكرههم أصلا، لوجه الله، وفئات أخرى تعتبرهم “عياشة” ومنافقين… يكفي أن تسمع سعد لمجرد يدعوك لترديد النشيد الوطني، كي تكفر بالوطن!” يقول جمال بدومة، خالصا إلى القول: “لا غرابة أن يصرّ البعض على قراءة اللطيف أو القرآن، في نفس الوقت الذي دعا فيه آخرون إلى ترديد النشيد الوطني، رغم أن لا تعارض بين “منبت الأحرار” وبين “اللطيف” ومختلف الأدعية…”.

كاتب من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    النشيد الوطني من تأليف البشر, أما القرآن فهو من تأليف رب البشر! شتان بين الكلام الوضعي وبين الكلام الرباني, لا يستويان!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    النشيد الوطني يمجد بالملك, أما القرآن فيمجد بملك الملوك! قراءة القرآن فيه راحة للأرواح, وطمأنينة للقلوب, وسعادة للنفوس!! ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول عبدالعزيز العروسي:

      حياك الله يا رفيقي الكروي.
      نحن المغاربة نمجد القرآن الكريم وهذا ما يميزنا عن باقي سكان الارض، بحيث المغاربة هم اكثر سكان الارض حفظا وترتيلا وتجويدا.
      اما قولك ان نشيدنا الوطني يمجد الملك. فأضن انك نسيت أو تناسيت نشيدك الوطني الذي يقول:
      منبت الأحرار مشرف الأنوار
      منتدى السؤدد وحماه
      دمت منتداه وحماه
      عشت في الاوطان
      للعلى عنوان
      ملأ كل جنان
      ذكر كل لسان
      بالروح بالجسد
      هب فتاك
      لب نداك
      في فمي وفِي دمي
      هواك ثار
      نور ونار
      إخوتي هيا
      للعلى سعيا
      نشهد الدنيا
      أنا هنا نحيا
      بشعار الله الوطن الملك
      إذن يا رفيقي الكروي أين هو تمجيد الملك؟ وفِي الأخير أقول لك إن الوطن غفور رحيم
      شكرا لجريدتنا الغراء القدس العربي

  3. يقول Ahmed HANAFI اسبانيا:

    شكرا للكاتب على مقاله الموفق والمفيد. أما اخونا الذي سبق غيره إلى التعليق، و الذي جعل من نشيد الوطن نقيضا لكتاب الله تعالى،”
    المغاربة يعشقون نشيدهم ويعرفون دلالاته. الله، الوطن، الملك. فهم مسلمون موحدون، يحبون وطنهم ويحترمون ملكهم / قائدهم في معاركهم ضد الحاقدين وما أكثرهم.

  4. يقول سعد بنت الريف:

    سنبقى هكذا الى الابد ما دمنا نضيع الفرص والوقت معا للتعتيم والمداراة على الحقائق ونبرر الخروقات لان الوزير او الحاكم قدم تبريرا للتغطية على الفضوحتى لا يقف الراي العام والعالم مستقبلا على التجاوزات التي تقوم بها السلطة ،،تم تقرير منع تصوير القياد والمخازنية ،، في جولاتهم التي اعطت انطباعا سيئا عكس ما كان تهدف التغطية الاعلامية لنشاطهم ، فليست قضية التكبير والتهليل هي التي ازعجت المغاربة لان هذا من ديننا الحنيف وهو غير مجرم قانونا ومع ذلك تعرض له الكاتب بحيز واسع من الانتقاد وغض الطرف عن الاخطر ولم يذكر الحادثة الا ليبررها على غرار ما فعل وزير الداخلية مستعملاوصفا ،،عمل فردي ،، اصبح يثير حساسية الجميع ،فيديو الصفع والركل لم يكن الوحيد فهناك فيديو آخر لقايد آخر في مكان آخر شرع في اتلاف بضاعة لحام ،،سودار،، لانه غير نشاطه من التلحيم الى بيع الخضر في ظل اغلاق المحلات من غير تلك التي تتعلق بالمواد الغذائية حفاظا على قوت عائلته ورغم توسل الطفل للقايد الا ان قلبه كان قاسيا واتلف ما اتلف وما تبقى تم حجزه دون تخويل من القانون ، واذا ابحرنا في عالم اليوتيوب سنجد بعض القايدات في مناطق مختلفة يخاطبن الناس بخشونة ورعونة وعنف لفظي كان أكثر إيلاما على الرجال نفسيا من العنف الجسدي

    1. يقول بلقاسم:

      التعنيف عند رحال السطة في المغرب ,,في نظرهم ,,هو مرادف للحزم والصرامة في تطبيق القانون ولذا فان الكثير من غير المغاربة يستغرب تلك الالفاظ الجافة الخالية من اللباقة في التعامل مع الاخرين تصدر من القايد والقايدة باسم القانون , في حين يراها اهل البلد قمة في حسن المعاملة والفرق انهم تعودوا على ما هو اسوأ , هذا هو حال شعب يجمعه ,, براح,, وتفرقه قايدة

    2. يقول Ali:

      إلى بلقاسم. تنويها بالطريقة التي يتعامل بها المغرب ضد كوفيد 19، طلب اليوم الاتحاد الأفريقي من المغرب أن يقدم كل المساعدات خاصة الطبية و الفنية للدول الأفريقية المصابة بوباء كوفيد 19.

  5. يقول التائب:

    قال تعالى ” قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت مل شيء”
    المسجد لابد أن يكون له دور في الخروج من هذه الجائحة، فعندما شعر المغاربة بخطر الظهير الفرنساوي أسرع الفقهاء في تأليف الشعب وإطلاق اللطيف، وقال تعالى “فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا” فكما أسرعت المجالس العلمية بالإفتاء بغلق المساجد فعليها أن تبدع في إيجاد صيغة بديلة فمثلا إقامة الصلاة جهرا من المسجد وكل يصلي في بيته وراء الإمام ، وإذا لم تبادر المجالس العلمية بقيادة المسلمين دينيا فسيتم تجاوزها وتظهر قيادات أخرى لأن الفراغ لابد أن يتم ماؤه حسب قوانين الفيزياء

إشترك في قائمتنا البريدية