بعد أن عاش قرنا من الزمن رحل الدكتور هنري كيسنجر عن العالم الذي كان له دور في اتخاذ قرارات كبيرة بشأنه في أحلك الظروف التي مرت به في القرن الماضي. وبرحيله أُسدلت صفحة من التاريخ الأمريكي المعاصر الذي كان للدبلوماسية خلاله دور يوازي الدور العسكري والقوة المفرطة.
فقد كان كيسنجر سياسيا بارزا خلال الحقب الصعبة ابتداء بالحرب العالمية الثانية، مرورا بالعصر النووي الذي قفزت فيه أمريكا إلى مركز الصدارة في العالم، وأزمة خليج الخنازير في ذروة الأزمة الكوبية وصولا إلى بلوغ الدور الدبلوماسي والعسكري الأمريكي ذروته بعد حرب الخليج الثانية. وعلى صعيد الشرق الأوسط برز اسم كيسنجر بعد حرب 1967 بين الدول العربية والكيان الإسرائيلي. وهنا أصبحت صورة كيسنجر، ومعه الدبلوماسية الأمريكية، محسوبة على الطرف الآخر من المعادلة. فقد بدأت السياسة الأمريكية تجاه قضايا العرب خصوصا القضية الفلسطينية، تتبلور في اتجاه معاد حتى أصبحت أمريكا في نظر المواطن العربي العادي، شريكا في الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين. وما المواقف الأمريكية الحالية تجاه ما يحدث في غزة إلا استمرار لما بدأه كيسنجر قبل نصف قرن من انحياز كامل للصهاينة.
لقد كان لنشأة كيسنجر في مقتبل عمره أثر مباشر في بناء شخصيته وتفكيره، وبالتالي توجيه دوره الدبلوماسي عندما استلم أكبر منصب مرتبط بسياسة أمريكا الخارجية. فقد ولد لعائلة يهودية في مقاطعة بافاريا بألمانيا، وتعرض للاضطهاد في ألمانيا الهتلرية حتى العام 1938 عندما هاجرت عائلته إلى نيويورك. وهناك عاش وترعرع في أوساط الجالية اليهودية. في عام 1967 عمل وسيطاً لوزارة الخارجية في فيتنام. واستخدم علاقاته مع إدارة الرئيس ليندون جونسون لنقل المعلومات حول مفاوضات السلام إلى معسكر الرئيس نيكسون. وحينما فاز نيسكون بالانتخابات الرئاسية عام 1968 قام بتعيين كيسنجر مستشاراً للأمن القومي الأمريكي. وفي عام 1973، بالإضافة إلى دوره مستشاراً للأمن القومي، تم تعيين كيسنجر وزيراً للخارجية، ما منحه سلطة لا منازع فيها في الشؤون الخارجية. وكان متوقعا أن تدفعه تجربته لانتهاج منحى آخر، لكنه ذهب بالاتجاه الآخر. إذ يُفترض ان تدفعه تلك التجربة للتشبث بقيم العدالة وحقوق الإنسان لأن غيابهما عن ألمانيا الهتلرية انعكس سلبا على حياته. كان عليه أن يختار أولوياته الفكرية بين الترويج لقيم العدالة أو التشبث بمقولات الاستقرار والأمن مع تجاهل الأبعاد الإنسانية وحقوق الإنسان. فأنظمة الاستبداد تبرّر سياساتها بحرصها على ضمان الأمن والاستقرار وتضحي بقيم العدالة وحقوق الإنسان. وهذا هو النهج الذي تبناه كيسنجر وترك آثاره بشكل واضح على مواقفه كوزير للخارجية الأمريكية تحت إدارة كل من ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد ما بين 1968 و 1976. كانت تلك الفترة ذروة الحرب الباردة، فكان كيسنجر لاعبا محوريا فيها، ممثلا لأمريكا على الصعيد الدولي. هذا الانفصام في الشخصية بين تجربة المعاناة الشاقة وممارسة دور قيادي متميز يتيح للفرد ان يكون مختلفا عن الآخرين في أطروحاته، كان له الأثر الكبير على مواقف كيسنجر المستقبلية. وهكذا أصبح رمزا للأطروحة الإيديولوجية الغربية طوال نصف القرن الأخير، حتى اعتبر أحد منظّريها المعاصرين.
فمنذ أن التحق كيسنجر في مقتبل عمره بالسلك الدبلوماسي كانت لتلك السمات انعكاساتها على سياساته ومواقفه. وكان له أثر بارز في دوائر عديدة من الصراعات الدولية التي ميّزت حقبة الحرب الباردة. أولها أنه عبّد الطريق للتواصل بين أمريكا والصين، وكان دوره بارزا في التمهيد لزيارة الرئيس نيكسون إلى بكين في العام 1972. يومها كانت الصين تمثل ركنا إيديولوجيا موازيا لما يمثله الاتحاد السوفياتي، حيث الشيوعية تحتل موقع الصدارة لدى الحزب الشيوعي الحاكم، وكانت محسوبة على الطرف الآخر في الحرب الباردة التي تمحورت حول الصراع الأيديولوجي بين النظام الغربي الرأسمالي والاشتراكية الشرقية التي تمثل الماركسية أساسها. ثانيها: كان لكيسنجر دور بارز في تخفيف حدة الاستقطاب مع الاتحاد السوفياتي الذي كان له نفوذ غير مباشر من خلال انتشار الأحزاب الشيوعية في مناطق واسعة من العالم كان الكثير منها تحت النفوذ الأمريكي. وتجسد التنافس بين الطرفين في التعاطي مع أمور عديدة: أولها توسع النشاط الشيوعي عبر حركات التحرر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وثانيها: السباق النووي بين المعسكرين الغربي والشرقي وخشية العالم من مواجهة نووية مدمرة خصوصا مع احتدام المقاومة ضد النفوذ الأمريكي في مناطق صراع عديدة. وثالثها: الصراع على النفط وخشية أمريكا من وصول النفوذ السوفياتي إلى مياه الخليج الدافئة. ورابعها: سعي المعسكرين للتأثير على المؤسسات الدولية خصوصا الأمم المتحدة، وهو صراع بلغ ذروته باستهداف الأمين العام للأمم المتحدة، دان همرشولد، الذي سقطت طائرته (أو ربما أسقطت) في العام 1961 في غابات الكونغو، وهو في طريقه إلى روديسيا. وكانت الدائرة الثالثة للصراع حرب فيتنام التي جسّدت ما يمكن أن تصل إليه حدة التنافس بين المعسكرين. أما الدائرة الرابعة فكانت في الشرق الأوسط، وأبرز مصاديقها الصراع العربي الإسرائيلي. وقد لعب كيسنجر دورا بارزا خصوصا بعد حرب 1973. لكن هذا الدور لم يكن إيجابيا من وجهة النظر العربية، بل كان منحازا للكيان الإسرائيلي، وملتزما بالمبدأ الأمريكي الذي يقضي بالحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي دائما. كان كيسنجر في نظر الشارع العربي جزءا من الأزمة حتى حين يتظاهر بـ «البحث عن حل دائم» ينهي القضية. لكنه لم ينجح في ذلك المسعى، بل استمرت الأزمة تحصد أرواح البشر حتى اليوم.
الواضح من التصريحات الرسمية بشكل عام حول رحيل هنري كيسنجر الكثير من الإطراء على أدواره السياسية على مدى ثمانية عقود من المناصب السياسية وأهمها عضوية مجلس الأمن القومي والخارجية الأمريكية. الغربيون يرون في كيسنجر مهندس السياسة الغربية تجاه قضايا العالم، وأنه أسس لمبادئ عديدة لتلك السياسة. أولها السعي لتخفيف حدة الصراع خصوصا مع الشرق (الصين وروسيا). وقد حدث ذلك في أغلب الحالات، حتى قضية أوكرانيا لم تعد مفصلية في السياسات الغربية (الأوروبية والأمريكية) ولم يعد التسلح النووي مصدر توتر في تلك العلاقات خصوصا بعد التوصل لاتفاقات دولية من بينها معاهدات سالت 1 و سالت 2 ونيو ستارت. كما لم يعد الصراع على النفوذ في أوروبا الشرقية مصدر اضطراب لتلك العلاقات. ومن المؤكد أن لدبلوماسية كيسنجر أثرا في التأطير لعقلية الحوار بين الشرق والغرب. ثانيها: الالتزام بمقولة «الواقعية السياسية» بدلا من الالتزام بمنظومة قيمية أو مرتبطة بحقوق الإنسان. كيسنجر أكد كثيرا على محورية «الاستقرار» في السجالات الدولية في مقابل مقولات العدالة وحقوق الإنسان. وقد سار الغربيون عموما على هذا الخط حتى اليوم، فلم تعد هناك منظومة قيمية لدى الغرب تنافس «الواقعية السياسية» أي القبول بالأمر الواقع وعدم الانخراط في محاولات القفز عليه او تغييره أو التشبث بالمقولات المبدئية والقيم الثابتة. ثالثها: جسّد كيسنجر في حياته السياسية كمنظّر ومنفّذ للسياسة الخارجية الأمريكية أسلوب «الدبلوماسية المتحرّكة» أي المتابعة الحثيثة للقضية موضع النقاش بين الأطراف وإن تطلب ذلك زيارات مكوكية بين الأطراف المعنية. أي عدم الاستعجال في القفز على الواقع بحثا عن حلول مستعجلة لا تؤدي للاستقرار.
قد تبدو هذه الآثار العملية لشخصية سياسية عملاقة إيجابية في أغلبها. لكن التاريخ له موقف شديد مع مهندس السياسة الأمريكية المعاصرة. فالرجل كان له دور محوري في ما ارتكبته أمريكا من جرائم خصوصا خلال حروبها في آسيا. فقد كان مسؤولا في مجلس الأمن القومي عندما كانت القوات الأمريكية تمارس أبشع الجرائم في فيتنام. وعندما كان وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، روبرت ماكنمارا، يصدر أوامره لقواته في فيتنام باستخدام قنابل النابالم الحارقة وتطبيق سياسة «الأرض المحروقة» بما يسمى «القصف السجادي» كان كيسنجر جزءا من الجهاز السياسي والأمني آنذاك. ولذلك اتهم بارتكاب «جرائم حرب» خصوصا عندما ساهم مع زملائه في الإدارة الأمريكية بتوسيع رقعة الحرب من فيتنام الى لاوس وكمبوديا وبنغلاديش. كما كان له دور في جرائم الحرب الأمريكية التي ارتكبت في تيمور الشرقية وتشيلي والأرجنتين. وتؤكد الوثائق الأمريكية التي أفرج عنها مؤخرا دورا أمريكيا محوريا في إسقاط الحكومة التي انتخبت في تشيلي في العام 1973 وعلى رأسها سلفادور الليندي.
كاتب بحريني