كَثْلكة الإسلام

حجم الخط
22

تقرر دراسات الأديان المقارنة أن هناك تشابهاً كبيراً بين بعض الطقوس التي تمارسها بعض الفرق والمذاهب في دين ما مع نظائر لها في دين آخر، عندما تكون ظروف النشأة والأهداف الكامنة متطابقة.
وفي هذا الموضوع يمكن رصد الكثير من المعتقدات والطقوس التي انسربت قبل قرون من «الكاثوليكية الرومانية» إلى «التشيع الصفوي» المختلف ـ عقدياً وطقسياً – عن التشيع العلوي الذي أُعيد إنتاجه بشكل مختلف، جعله مشابهاً ـ في كثير من الملامح ـ لرؤية الكاثوليكية في الأبعاد العقدية والطقوسية التي لا تخلو من محاميل وأهداف سياسية، دون أن يعني تقرير ذلك التشابه النيل من أي من المذهبين.
وفي عهد الصفويين في إيران تكرست النسخة الصفوية من التشيع، وعلى الرغم من أن أسرة شاه إسماعيل صفوي لم تكن فارسية، إلا أنها «تفرَّست» وأحيت الكثير من التقاليد الساسانية القديمة، إضافة إلى مزجها التشيع بالكثير من الرؤى والطقوس الكاثوليكية، لكي يتميز الصفويون الشيعة عن العثمانيين السنة.
وكما نحا الرومان منحى إمبراطورياً بمأسسة المسيحية، وتحويل الكنيسة الكاثوليكية إلى ذراع دينية تدعم سلطتهم السياسية، فعل الصفويون الشيء ذاته من خلال مأسسة التشيع، ليتسنى لهم تحويل التشيع إلى ذراع دينية لدعم سلطتهم السياسية.
وفي هذا الشأن يمكن رصد الكثير من الجذور الكاثوليكية الرومانية في التشيع الصفوي، سواء في الجوهر العقائدي أو الشعائر الطقوسية، ذلك أن إحدى الأفكار الجوهرية في المذهبين تدور حول «تقديس الإنسان» أو إسباغ خصائص إلهية على البشر، كما في فكرة «الإمام» التي توازي فكرة «المسيح» الذي يُعد «ابن الله» الذي تجسدت فيه «إرادة الأب» في الكاثوليكية والمسيحية الرسمية بشكل عام، كما هو الحال بالنسبة للإمام «حجة الله» الذي تجسدت فيه «ولاية التكوين» والتي بموجبها «يستطيع الإمام التحكم بذرات الكون» بالإضافة إلى كونه «يعلم ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة».
وترتبط فكرة القداسة بـ«رمزية التضحية» في التشيع، وهي الفكرة المرتبطة بـ«رمزية الفداء» في الكاثوليكية، حيث يبرز دور «الحسين الشهيد» في مقابل «المسيح الفادي» في تناغم بين فكرتي: «ابن الله» و«ابن رسول الله». وعلى الرغم من الفارق الكبير بين المفهومين من الناحية الشكلية، إلا أن جوهر الفكرتين لا يختلف، بعد إضفاء التشيع الصفوي قداسة إلهية على الإمام، وهنا أصبح «استشهاد الحسين» في التشيع معادلاً لـ«صلب المسيح» في الكاثوليكية، و«تراب كربلاء» موازياً لـ«صليب الفداء» و«العائلة المقدسة/أهل البيت» متسقة مع «العائلة المقدسة/ العذراء وابنها».
وقد استشرت فكرة التقديس في مديات مختلفة، وتناسلت منها المعتقدات والأفكار، وجاءت فكرة «الأنثى المقدسة» وهي فكرة لها علاقتها بالفكرة الأسطورية عن «الأنثى الإله» التي شكلت ملامح فكرة «البتولية أو العذرية» التي تدور حول «مريم العذراء والدة الإله» التي حاول التشيع نسخها على صورة «فاطمة البتول والدة الإمام». وعلى الرغم من أن اللاهوتيين الكاثوليك فسروا «عذرية مريم» بكون المسيح ولد بمعجزة، إلا أن المراجع الشيعة لم يوردوا لنا تفسيراً عن تصورهم لـ«بتولية فاطمة» التي تزوجت وأنجبت البنين والبنات، وهنا لا يمكن فهم محورية تلك الفكرة الشيعية إلا في إطار السياق العام للتأثير الكاثوليكي في التشيع.
وفي سياق هذا التأثر يمكن القول إن الفكرة الشيعية عن «خروج المنتظر» تكاد تتطابق مع الفكرة المسيحية عن «رجعة المسيح» وعلى الرغم من أن أغلب المسلمين ينتظرون «المهدي» إلا أن الشيعة الإمامية تحديداً ينتظرون مهدياً وُلد وغاب «غيبة صغرى» ثم رجع فغاب «غيبة كبرى» ليعود في آخر الزمان، تماماً كما ولد المسيح ثم غاب «غيبة صغرى» بالصلب، فقام بعد ثلاثة أيام، ليغيب «غيبة كبرى» بالصعود، ليعود في آخر الزمان، كما عند الكاثوليك وغيرهم من المسيحيين.
ومن فكرة «المأساة» تولدت «عقدة الذنب» وجاء مفهوم «جلد الذات» في التشيع الصفوي متجاوباً مع المفهوم ذاته في الكاثوليكية، ندماً واستشعاراً لألم «الحسين الشهيد» أو «المسيح الفادي» وهي الفكرة التي تحولت إلى طقوس وحشية منعتها الكنيسة قبل قرون، غير أن كثيراً من الشيعة لا يزالون يمارسونها. ومن فكرة «المأساة» ـ كذلك ـ خرجت طقوس «المشي إلى كربلاء» الذي يعد انعكاساً للمشي المسيحي على درب المسيح في طريق الآلام، حسب اللاهوت المعروف. وعلى الرغم من أن الكاثوليكية قررت قبل سنوات تبرئة اليهود اليوم من «صلب المسيح» إلا أن التشيع لا يزال يحتاج أفقاً إنسانياً أرحب لتجاوز عقدة الثأر من «قتلة الحسين» الوهميين.

فكرة التدين في جوهرها تقوم على العلاقة الروحية المباشرة بين الإنسان والله، غير أن الاستغلال السياسي والاقتصادي للأديان أدخل عليها الكثير من المعتقدات والطقوس التي ظلت تنتقل من دين إلى آخر حسب توجهات السلطة السياسية

ويجدر القول ـ هنا ـ إنه ونتيجة لصعوبة فهم بعض اللاهوت الشيعي والكاثوليكي المعقد بفعل تشابك مجموعة من التقاليد والمعتقدات ذات الأبعاد الأسطورية لجأ المذهبان إلى وسيلتين: الأولى عقلية/فكرية، تتمثل في الاستعانة بعلوم المنطق والفلسفة للدفاع عن المعتقدات والطقوس وليس هنا مجال بحثها، والثانية عاطفية/فنية تتمثل في الاهتمام بفنون النحت والتصوير والتمثيل والغناء والإنشاد، لتكريس هذه المعتقدات والطقوس لدى العامة.
وفي هذا السياق يمكن فهم محاولات تجسيد الشخصيتين (المسيح والحسين) في الرسوم والتماثيل الكثيرة التي تحاول استحضارهما في أبعادهما الإلهية والمأساوية في الآن ذاته، إذ تأتي المبالغة في التأكيد على الأبعاد الإلهية للشخصيتين كرد فعل – لا شعوري – على تصور مأساتهما في المخيال الديني لدى أتباع المذهبين.
وقد أعيد إنتاج صورة «الحسين العربي» مع لمسات من الفنون الفارسية المختلفة، بهدف الاستحواذ القومي على رمزيته، ليصبح بعيداً – نسبياً – عن ملامحه العربية، ولكي تحدث قطيعة حدّية بين «الحسين الأصل» و«الحسين الصورة» ليتسنى تهميش الأصل العربي لصالح الصورة الفارسية، بما يعنيه ذلك من مدلولات قومية. وقد سارت هذه العملية على المنوال الكاثوليكي في إعادة إنتاج شخصية المسيح، ليبتعد عن ملامحه الشرق أوسطية، وليقترب من المواصفات الرومانية في أبعادها الأسطورية، في عمليات ممنهجة لـ«فرسنة الحسين» لدى التشيع الصفوي/الفارسي و«رومنة المسيح» لدى الكثوليكية الرومانية، خدمة لأهداف الهيمنة القومية لدى الفريقين.
وكما طور التشيع فنون الرسم والتمثيل لاستيحاء «مأساة كربلاء» من «مأساة المسيح» فإن التشيع اهتم كذلك بالفنون الغنائية في تجاوب واضح مع اهتمام الكاثوليك بهذه الفنون، وجاءت «الروزخانات الشيعية» متجاوبة مع «الترانيم الكاثوليكية» في استدرار عواطف الأتباع وتوجيهها دينياً وسياسياً ضد «خصوم الحسين» من النواصب و«خصوم المسيح» من «الهراطقة».
ويشترك المذهبان في أن تكريس كل منهما جاء على يد قوة إمبراطورية حرصت على استغلالهما سياسياً، حيث ربط الرومان المسيحية بإمبراطوريتهم بشكل مؤسسي يبعدها عن موطنها الأصلي في الأراضي المقدسة في فلسطين، كما حرصوا على بناء مراكز دينية مقدسة موازية للمراكز المسيحية في الأراضي المقدسة، ودأبوا على الاهتمام بشكل أكبر بالكنائس القومية الرومانية وعلى رأسها الفاتيكان وبأضرحة القديسين المختلفة، لتكون المعادل الموضوعي – في القداسة – لكنيستي المهد والقيامة، وساعدت إشارات بعض البابوات على تشجيع الحج إلى روما وغيرها في مقابل الحج إلى الأراضي المقدسة، ضمن عمليات مستمرة لـ«رومنة» المسيحية، وتفضيل الكاثوليكية كمذهب قومي روماني على المسيحية كدين إنساني عالمي. وهنا يمكن القول إن ما جرى على المسيحية من طرف الرومان جرى ما يشابهه – إن لم يكن يطابقه – من طرف الصفويين على الإسلام، احتذاء بما فعله الرومان بالمسيحية، وللأهداف القومية ذاتها، حيث الاهتمام بالمراكز الشيعية الموازية للمراكز الإسلامية المقدسة، وبناء مركزية دينية حول أضرحة الأئمة والاهتمام بها، لما لذلك من رمزيات دينية وسياسية، ومردود اقتصادي.
والخلاصة أن فكرة التدين في جوهرها تقوم على العلاقة الروحية المباشرة بين الإنسان والله، غير أن الاستغلال السياسي والاقتصادي للأديان أدخل عليها الكثير من المعتقدات والطقوس التي ظلت تنتقل من دين إلى آخر حسب توجهات السلطة السياسية، وكما اقتبس التشيع الصفوي كثيراً من عقائد وطقوس الكاثوليكية الرومانية، ليصبح ديناً رسمياً للدولة الصفوية، فإن الكاثوليكية ـ بدورها ـ اقتبست كثيراً من عقائدها وطقوسها من الحضارات الفرعونية واليونانية والرومانية القديمة، بعد أن أصبحت المسيحية ديناً رسمياً للإمبراطورية الرومانية، حسب كثير من الباحثين
يشير المفكر الشيعي الإيراني الدكتور علي شريعتي في كتابه «بين التشيع العلوي والتشيع الصفوي» إلى أن الصفويين الشيعة أدخلوا الكثير من الرموز الدينية المسيحية على التشيع من أجل إكمال تميزهم ـ سياسياً ومذهبياً – عن العثمانيين السنة.
وإذا كان للصفويين أهدافهم الإمبراطورية في «كثلكة الإسلام» فإن تلك الأهداف هي عين أهداف الرومان في «كثلكة المسيحية» وهي الأهداف ذاتها التي يتوخاها النظام الإيراني من وراء تسييس التشيع اليوم.

كاتب يمني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    ” كما هو الحال بالنسبة للإمام «حجة الله» الذي تجسدت فيه «ولاية التكوين» والتي بموجبها «يستطيع الإمام التحكم بذرات الكون» بالإضافة إلى كونه «يعلم ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة». ” إهـ
    كيف يقبل شخص يقول لا إله إلا الله, محمد رسول الله, بهذا الكلام؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) المزمل
    أي: انقطع إلى الله تعالى، فإن الانقطاع إلى الله والإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، والاتصاف بمحبة الله، وكل ما يقرب إليه، ويدني من رضاه. – منقول –
    هذا هو تفسير البتول بالقرآن يا دكتور!
    ولكن: من الذي أطلق على فاطمة هذا اللقب؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول عربي من المالديف:

    كان لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين حديث الأربعاء.واليوم لدينا لعميد القلم العربي الجديد الدكتور محمد جميح حيث الخميس.

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    صحيح أنه يوجدهناك تشابه كبير بين الفكرتين يا دكتور,
    ولكن: هل مركز الولي الفقيه يشابه مركز البابا, أم يتفوق عليه؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول محمد العراقي:

    (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)

  6. يقول تيسير خرما:

    تبدأ معظم العقائد بأمور مقنعة للناس كحماية نفس وعرض ومال وكرامة وحرية وعدالة لكن تتمثل المشكلة بقابلية الناس على الهبل والإستهبال فكل العقائد سواء قديمة أو حديثة بقرون غابرة أو بعصر حديث وسواء كانت عقائد سماوية أو وضعية أو علمانية جميعها قد فرخت رجال عقيدة يستهبلون باقي الناس بتحريفها تدريجياً لتحقيق مصالح شخصية أو فئوية أو تقديس أشخاص للإستقواء على الناس واستباحة أموالهم وأعراضهم سواء عن طريق فن خطابة ورواية بدائل للحقائق بطرق مقنعة للعامة أو بطرق أمنية وعسكرية لفرض واقع يعدم كرامة وحرية وعدالة

  7. يقول خليل ابورزق:

    استغلال الدين لخدمة السياسة ظاهرة عالمية إنسانية قديمة جديدة. بل ان الانظمة السياسية لا تتورع عن تحوير الدين فيما ينتج عنه مذاهب تصطنع الاختلاف و التناقض من الآخرين لخدمة سياساتهم. و الكثير من الأشكال الدينية و خاصة الروحية والغيبية متشابهة في كثير من الأديان السماوية وغير السماوية.
    ارى ان الكاتب المحترم و النبيه متحيزا في مقاله

    1. يقول سعد الخولاني:

      المقال يسرد بالاستشهاد التاريخي والمعاصر كيف أثرت الكاثوليكية الرومانية في التشيع الصفوي.
      فهل هذا الكلام غير صحيح؟
      وجاء اقتباس الكاتب لمقولة علي شريعتي موفقاً، لأن شريعتي شيعي وليس سنياً كي يتهم بالتحيز.

  8. يقول سوسن خميس:

    المقال سبر الحقيقة التي قالها شريعتي مداري عن التشيع الصفوي والعلوي.قالها جميح باسلوب أفضل من شريعتي.
    لم يك متحيزا او مشككا او مهاجما بل وضع النقاط على الحروف بامانة ومسوؤلية.هذا النوع من الكتابات التي نحتاجها فمقالات جميح افتتاحية الجريدة الأسبوعية.قرأت كتاب شريعتي..منذ سنوات.وهو ألف باء الحقيقة.هذا المقال كان بحق ألف ياء الحقيقة.إنه مقال في كتاب او كتاب في مقال.

  9. يقول بين الامس واليوم:

    الصفويه اليوم كما بالأمس استغلت الدين وأسبغت الألوهيه والقداسه الفائضه على بعض الرموز كالحسين والمهدي لغسل الأدمغه والاستيلاء على البلدان. لننظر الى الاجتثاث وسحق البشر كما في سوريا العراق… وانهماك ايران في تصدير ثورتها كيف يختلف هذا عن الحروب الصليبيه التي استهدفت ديار المسلمين أيضاً؟

  10. يقول S.S.Abdullah:

    لقد ورد التالي (الروبوت وشياطين المثقف، إنه هوموإسلاميكس، إنسان آلي مبرمج على «الإسلام» أو «الشريعة».) تحت عنوان (هوموإسلاميكس وغيلان: المثقفون كحراس للاستبداد) لمقال السوري (حسام الدين محمد) في تقديم كتاب (ياسين الحاج صالح) بعنوان («الثقافة كسياسة: المثقفون ومسؤوليتهم الاجتماعية في زمن الغيلان»)،

    ما فات الإثنان، من وجهة نظري في لغة القرآن وإسلام الشهادتين، الإنسان وعاء المتناقضات أصلاً، أي ليس هناك ملاك أو شيطان، أو هناك عدالة أو تقييم بواسطة (الخالق) على أرض الواقع، أصلاً،

    ولذلك أنا أميل إلى زاوية رؤية عنوان (محمد جميح) في نفس عدد جريدة القدس العربي، البريطانية (كَثْلكة الإسلام) في مناهج تعليم دولة الحداثة أو بيروقراطية (الديمقراطية)،

    أو عملية فرض عقيدة التثليث (السلطات الثلاث) على (عقيدة التوحيد) بشكل عام،

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية