أراقبهم منذ سنوات، وأسخر منهم، وأضحك عليهم، على سخافاتهم، وتوهماتهم، وتلك المنشورات الغبية، أو نصف الغبية، التي يكتبونها على صفحاتهم، وذلك الإصرار على إظهار «الأنا» بأشكال بعضها قميء ويدعو للاشمئزاز.
أراقبهم، وأهزأ لاهتمامهم المبالغ فيه، وهم يتابعون عدد اللايكات التي تحصدها منشوراتهم البائسة، خاصة تلك التي تأتي على شكل قلوب حمراء أو دموع، كما لو أنها قطع ذهبية تتنزل عليهم من السماء. أتابعهم وهم يقرأون بشغف التعليقات التي ينتظرونها كما ينتظر غريق طوق نجاة. لم يعد في حياتهم ما هو أهم من هذه اللايكات، أو «الريبوستات» أو التعليقات. لم يعد هناك شيء يطربهم مثلها، أو يعيد لذواتهم قيمتها بعد أن أصبحت هي الأوكسجين الذي يتنفسون به في عزلتهم الافتراضية التي دخلوا إلى سجنها بأيديهم وأرجلهم.
بابتسامة ساخرة مرسومة على فمي أراقبهم كيف يتهللون ويفرحون بكلمات الإطراء على أي منشور يكتبونه، حتى إن كانت من ذلك النوع الشائع والمتداول الذي يقوم الهاتف بكتابته بشكل اتوماتيكي. ينتظرونها بصبرِ جَمل ومثابرة فلاَّح. يتلصصون عليها، ويعيدون قراءتها من حين لآخر، ولا ينسون طبعاً النظر إلى اللايكات، خاصة تلك التي تظهر على شكل قلوب حمراء أو دموع. أراقب كيف تغضبهم بعض التعليقات، التي لا تأتي على مزاجهم تماماً، أو تلك التي لا تروق لهم، أو يروقهم أصحابها. أتابع بعضهم وهو يلغي تعليقاً ضايقه، ويشعر بالانتصار كما لو أنه ألغى ليس ذلك التعليق وحسب، بل صاحبه أيضاً.. ويا لها من عظَمة، ويا له من انتصار!
أراقب أولئك الذين يهددون ويتوعدون أنهم سيحذفون من يخالفهم الرأي في قضية ما، أو من لم يتفاعل معهم منذ فترة، أو من وضع على «بروفايله» صورة شخصية سياسية أو دينية يكرهونها. كم هم مثيرون للشفقة، مثلهم مثل أولئك الذين تتقافز جيناتهم الذكورية إذا استقبلوا لايكاً أو تعليقاً من فتاة، حتى إن كان اسمها المزيف، بكل بساطة، هو «الباحثة عن حنان» أو الفتيات اللواتي يفرحن بكلمات مديح كاذب، أو غزل سَمِج، حتى وإن جاء من أشخاص يُلطخُ الانحطاط جدرانهم من الداخل والخارج على حدٍ سواء. أشعر بالحسرة وأنا أرى أولئك الذين لم يكونوا بالأمس تافهين، كم أصبحوا اليوم كذلك، أو أن رحلتهم للتفاهة مؤجلة للغد، إذ أن بعضهم، وهذا ليس من باب المبالغة أبداً، يكتئبون ويمرضون إذا لم يحصلوا على ما ينتظرونه من لايكات، وهم يشاهدون من هم أقل مهارة منهم يحصدون منها المئات، بل الآلاف. يشعرون بالظلم والقهر، وقد يموتون نتيجة ارتفاع حاد في الضغط، أو سكتة قلبية مفاجئة، بعد كل مرة يقوم فيها فيسبوك بتغيير لوغاريتماته، فيضيعون كغرباء في لجة بحرٍ لا يعرفهم فيه أحد. تتناقص اللايكات إلى الحد الذي يمكن أن يكتبوا فيه منشوراً مهماً، كما يعتقدون، ولا يحصدون عليه سوى سبعة لايكات لا أكثر… سبعة لايكات فقط! يا لها من ورطة.. مصيبة.. كابوس.. ويا له من ألم!
أكاد أقع على الأرض من الضحك وأنا أتابعهم وهم ينشرون رسائل يوجهونها لـ»مارك» سباً أو استعطافاً، متهمين إياه بأنه أغلق صفحاتهم، أو قيد حساباتهم، لهذا السبب أو ذاك، ثم ينبرون مستنفرين أصدقاءهم للوقوف معهم في معاركهم الوهمية التي يصدقونها هروباً من ذلك الشعور الذي بدأ يلاحقهم، ويتعاظم في داخلهم، بأنهم أصبحوا مجرد لا شيء في هذا العالم الشاسع. وماذا عساني أحدثكم عن أولئك الذين ينشرون صور أعزائهم وهم في أسوأ حالاتهم على سرير المرض أو في غرف العمليات، ويطلبون من أصدقائهم أن يدعوا لهم بالشفاء؛ لكنني أعرف أنهم في قرارة أنفسهم لا يكترثون إلا باللايكات والتعليقات التي ستنهال عليهم، أما المرضى أنفسهم فليذهبوا إلى الجحيم… كم أمقتهم!
كلهم يا أعزائي تعساء، بلداء، أنانيون يستحقون الازدراء والشفقة، لكنني مع ذلك أراقبهم واستمتع بذلك، وأدون ما يفعلونه من عجائب الزمان، ودهاليز النفوس، وأكتب عنهم منشوراً يفضح سخافتهم والزيف الذي استولى عليهم وعلى اهتماماتهم، وكيف أنهم، دون أن يدروا، ليسوا أكثر من منتجٍ أو سلعةٍ بيد شركات التواصل الاجتماعي العملاقة العابرة للقارات والحدود والأرباح، والقافزة فوق العقول والأفئدة.
أكتب هذا المنشور لأعري هذا الزيف الذي رموا أنفسهم في بئره بكل رحابة صدر، لأقول لهم عودوا إلى الحياة بدلاً من هذا الموت الخادع، وأضغط زر النشر… يدي على قلبي، وعيني على شاشة تلفوني… أنتظر بفارغ الصبر نزول المنشور في الصفحة قبل أن أبدأ بمراقبة اللايكات والتعليقات. الأمل يدغدغ قلبي، والقلق يتنامى في داخلي، وعيني تتضرع توقاً ورجاءً أن يتخطى منشوري المهم هذا حاجز الـ200 «لايك» على الأقل، وأن يحظى بالكثير من القلوب الحمراء والتعليقات الجميلة من هذا الصديق، أو تلك الصديقة، أو حتى من الأعداء والمتابعين الذين لا أعرفهم، المتسكعين في دهاليز فيسبوك المظلمة.. لا يهم… المهم أن لا يتجاهلوا اللايكات أو يقولوا أي شيء في خانة التعليقات.. أي شيء.. حتى أنتم أيها الأعزاء ليس مهماً إن كان هذا المنشور أعجبكم.. المهم أن لا تنسوا اللايكات حفظكم الله.
كاتب يمني