لا تلعب مع النظام الدولي يا غبي!

لم يعد يخفى على أحد بعد أن انجلى غبار ما سُمي بالثورات العربية أو «الربيع العربي» أن التغيير في العالم لا يحدث مطلقاً لمجرد أن هذا الشعب أو ذاك أراد التغيير أو ضاق ذرعاً بالظلم والطغيان، أو كما قال الشاعر «الرومانسي» الشهير أبو القاسم الشابي: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر».
لقد أثبتت السنوات العشر الماضية أن التغيير في هذا العالم المترابط أو المعولم لا يرتبط مطلقاً بحركة الشعوب كما ضحك علينا كارل ماركس ورفاقه الشيوعيون واليساريون والاشتراكيون، فقد كان ماركس يربط أي تحولات كبرى بالشعوب، وكان يُعطي للشعب أهمية عظيمة في حركة التاريخ إلى حد أن قال يوماً ما معناه: «لو لم يكن نابليون موجوداً لصنع الشعب الفرنسي ألف نابليون آخر للقيام بالحملات التي قادها نابليون». وكان ماركس من خلال هذا الطرح يريد التأكيد على أن التاريخ تصنعه الشعوب وليس الأشخاص والأبطال مهما كانوا عمالقة ونادرين واستثنائيين. لكن ماركس لم يكن يعلم أن العالم سيتطور وأن النظام الرأسمالي تحديداً سيقولب العالم كله حسب مصالحه وسيقضي على أكبر العقبات والأخطار التي يمكن أن تواجهه، وقد استطاع فعلاً أن يقضي على الإمبراطورية الشيوعية التي كانت قادرة أن تدمر العالم عشرات المرات من خلال ترسانتها النووية الرهيبة.
وإذا كان النظام العالمي الجديد كما وصفه جورج بوش الأب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قد قضى على الكتلة الاشتراكية بأكملها، فهل سيقف في وجهه بعض الشعوب المغلوبة على أمرها في مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن ولبنان والعالم الثالث عموماً؟ طبعاً لا، لهذا فإن الثورات العربية كانت قفزة في الهواء هذا إذا كانت الشعوب وراءها أصلاً، ولم تكن الضباع الدولية هي من دفعت بتلك الشعوب المسحوقة الحالمة بالتغيير والتحرر إلى أتون الثورات المصطنعة من أجل مصالح كبرى لا ناقة فيها للشعوب ولا جمل.
ليتك كنت بيننا الآن يا أبو علي كارل ماركس لترى كيف أصبحت الشعوب التي كنت تتغنى بقوتها وجبروتها. لقد غدت وقوداً للمشاريع الكبرى، فقتلوا منها الملايين، وشردوا ملايين أخرى، ودمروا أوطانها دون أن يرمش لسادة النظام الدولي جفن. هل فعل النظام السوري الأفاعيل بسوريا والسوريين من دون مباركة وضوء أخضر من سادة العالم؟ بالطبع لا. لماذا؟ لأن التغيير لا يجب أن يمر عبر المطالبين به مطلقاً مهما كان الثمن، بل عبر المايسترو الدولي الذي يحرك الأحجار على رقعة الشطرنج. أرجوك لا تقل لي إن شعوب أوروبا الشرقية تحررت من نير الطغيان الشيوعي، لا أبداً، لم تتحرر بإرادتها وقوتها الذاتية، بل بإرادة المتحكمين بهذا الكوكب، ونقصد الأنظمة الغربية الرأسمالية بقيادة العملاق الأمريكي. لاحظوا كيف انتقلت أنظمة أوروبا الشرقية الشيوعية إلى النظام الرأسمالي «الديمقراطي» بلمح البصر دون أن تخسر الكثير من سكانها أو من بنيتها التحتية كما حصل في سوريا واليمن والعراق وليبيا.

النظام الرأسمالي يقولب العالم كله حسب مصالحه ويقضي على أكبر العقبات والأخطار التي يمكن أن تواجهه، وقد استطاع فعلاً أن يقضي على الإمبراطورية الشيوعية

لماذا؟ لأن المايسترو الأمريكي هو الذي نقلها من حقبة إلى حقبة، وليس لأن تلك الشعوب كانت تريد التحرير. ربما كانت تلك الشعوب ترنو إلى التحرر من ربقة الديكتاتوريات الاشتراكية منذ عقود، لكن هل كانت قادرة فعلاً على الانعتاق من النير الشيوعي من دون دعم وتوجيه غربي كامل؟ بالطبع لا.
على العكس من ذلك نرى أن الشعوب التي حاولت أن تنعتق من نير الأنظمة الأمنية الوحشية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنظام الدولي في المنطقة العربية كسوريا وغيرها رغماً عن أنف المايسترو الدولي أصبحت ثوراتها في خبر كان، لا بل إن الشعوب نفسها تناثرت وتبدد معظمها عبر القتل والتهجير والتغيير الديمغرافي، لأن إرادة التغيير ليست في أيدي الشعوب، بل في أيدي ضباع العالم وكلابه. لهذا قلت بعد السنوات الأولى للثورات على سبيل التهكم: «إذا الشعب يوماً أردا الحياة فلا بد أن يأخذ الإذن من سادة العالم، أو «سنلعن سنسفيل اللي خلفوه» لأنهم قالوا له بصريح العبارة: نحن من نقرر التغيير في العالم العربي. نحن من نستبدل الأنظمة بما يخدم مصالحنا وليس بما يخدم مصالح الشعوب. نحن من نغير هذا الحاكم أو ذاك، لأننا نحن الذين اخترناه أصلاً وليست الشعوب. بربكم دلوني على شعب عربي واحد اختار حكامه أو أنظمته الحاكمة، أو يستطيع أن يطالب بتغييرها بعدما شاهد ما حدث للسوريين واليمنيين والليبيين والعراقيين والمصريين والتونسيين. بالمناسبة لم يحدث التغيير في أي من بلاد الثورات بما فيها تونس. لا تغيير حتى الآن في العالم العربي بعد الثورات إلا في ألوان كلاب الصيد. لقد خرج النظام التونسي الساقط من الباب ليعود من النافذة، لا بل إن الشعب التونسي يعاني الآن بعد نجاح ثورته المزعوم أكثر مما كان يعاني أيام ديكتاتورية بن علي، وهي بالطبع رسالة له ولكل من يحلم بالتغيير الذاتي بعيداً عن إرادة الضباع الكبار الذين يتحكمون بالعالم كما يتحكم اللاعب بأحجار الشطرنج. لهذا نقول للحالمين بتغيير الأنظمة في العالم العربي: عليكم أن تعلموا أن المنطقة أشبه بعمارة مبنية من «الطوب» أو الأحجار، وكل حجر موضوع في مكانه المطلوب، طبعاً يمكن تلوين الأحجار بألوان مختلفة بين الحين والآخر، لكن لا يمكن تغيير الأحجار إلا بأحجار مشابهة، لأن تغيير الأحجار ومقاساتها وأحجامها سيؤدي بالضرورة إلى انهيار العمارة. باختصار، فإن الأنظمة الحاكمة في منطقتنا ليست أنظمة ذاتية، بل هي جزء لا يتجزأ من النظام العالمي. من يستطيع أن يتجرأ على تغيير النظام الدولي؟ انظروا للشعوب التي حاولت أن تغير في أحجار العمارة (النظام الدولي) ماذا حدث لها؟
قل عن أي نظام عربي ما تشاء. اشتمه. قل إنه أسفل السافلين. قل إنه عار على العالم. قل ما تشاء، لكن عليك أن تعلم أن كل نظام له دور محدد مهما بدا هذا النظام سافلاً أو قذراً أو مارقاً. الكل يلعب دوره حسب توجيهات المايسترو الدولي. ربما أنك وصفت النظام السوري مثلاً بأنه قذر كبالوعة الصرف الصحي، فيرد عليك سادة النظام الدولي قائلين: كل بيت يحتاج إلى بالوعة، والبالوعة جزء لا يتجزأ من البيت (النظام الدولي) يا غبي.

كاتب واعلامي سوري
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عماد الدليمي:

    النظام الدولي الحالي تجاري مالي فقط من نوع كل من ايدو الو. لم يعد هناك قوة مستعدة لارسال جنودها ليموتو من اجل قضية لا تنفع او تضر مصالحها ولم تعد تعطي ضوء اخضر او احمر او غيره. كفانا إلقاء اللوم على غيرنا

  2. يقول احمد:

    لو كان العنوان : ( لا تستعين بالنظام العالمي يا غبي ) لكان اصح .

  3. يقول حسام الحلاق:

    اختلف تمام الاختلاف معك دكتور فيصل لأن التغيير فعلا بيد الشعوب وليس القوى الخارجية ولكن ما حدث في ثورات الربيع العربي أن غالبية المثقفين و النخبة وخاصة ما تسمى الليبرالية واليسارية لم تكن في مقدمة الجماهير بالتوعية والقيادة بل انشغلت بمصالحها الخاصة والتنازل على المناصب ومعاداة الإسلاميين حتى لو أدى ذلك تهريب العملية الديمقراطية بل وتحالفو مع بقايا الأنظمة القديمة

  4. يقول Nauras:

    السيد فيصل القاسم أنت تبشرنا ليس فقط بنهاية التاريخ ببساطة لغوية ودون نظريات مثل السيد فوكوياما, بل بنهاية الإرادة الإلهية وانتصار الشر على الخير. لو كانت أحوال البشرية مثل ما كتبته لتوقف التاريخ عند أول مجرم هيمن على أي مجتمع في العالم. التاريخ لم يتوقف عند نيرون ولا الحجاج ولا هتلر أو موسوليني أو ستالين ولن يتوقف عند بوش أو المسمى بالأسد. الثورة السورية فشلت لأن السوريين لم يكونوا موحدين في كلمتهم ولا قومتهم وافتقروا للقيادة النزيهة التي يمكن أن تنظم نشاطهم وأيضا الضمير الدولي ااذي وصل لإنحطاط غير مسبوق (ظروف الفشل يمكن كتابة كتب عنها). الشعوب تقرر وقررت عبر التاريخ الكثير ولكن بالفعل المنظم والنجاح تحكمه الظروف الموضوعية والتنظيم الجيد لأي ثورة. نحن أكثر الشعوب فوضوية وأقلها إنضباطا وتأقلما مع الروح الجماعية لأي عمل منظم يكلل بالنجاح. هذا أيضا واقع. لو كنا عكس ذلك لنافسنا الصهاينة على التحكم بالسياسة الدولية.

    1. يقول أسامة حميد- المغرب:

      صدقت. أحسن تعليق مع تعليق الأخ عبد الله السوري الذي بعده. ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) أما ما يسمى النظام الدولي فمجرد كائن هلامي . كثرة الأحزاب والجماعات والعصبيات وغياب القيادة الموحدة وضبابية الهدف والمرجعية الجامعة المستمدة من الكتاب والسنة هي سبب الفشل.

    2. يقول عامر:

      الثورة السورية لم تفشل و انما طال الالم كثيرا و ستنجح و تنتصر ان شاء الله و ستكنس نظام الاسد و بتداعياتها كل الانظمة العربية الاخرى والله اعلم و لكن الغرب و الامبريالية لن يتركونا في حالنا على اي حال

  5. يقول عبدالله السوري:

    ان الربيع العربي كان من تخطيط الحلف الصهيوصليبي هذا يجافي الحقيقة والا سنعتبر ان هذا الحلف له قدرات خارقة وانه يعلم الغيب ولهذا أوعز الى شرطية المجرم ابن علي بان تصفع العزيزي وان الحلف أوعز للبوعزيزي بأن يحرق جسده وتشعل ثورة كانت تحت الرماد واذا صدقنا هذه الرواية فسوف نكون قمة الغباء الحقيقة ان الشعوب العربية تعرف ان الدكتاتوريات التي تحكمها تتبع للحلف الصليبي وان الثورة ضدها تحتاج الى قوة جبارة ومشاركة من كل أفراد الشعب

  6. يقول سامي المهندس _ نيويورك:

    القاعدة الذهبية الثابتة أن من يقرأ الظروف الدولية قراءة صحيحة ويوجه أشرعة قاربه بالإتجاه الصحيح يصل الى حيث يريد.
    في حالة ليبيا واليمن وسوريا القوى المعارضة لم تستفد سريعا في الفترة الذهبية لإحداث تغيير سريع وذلك بالحديث مع القوى المؤثرة بسرعة وبخطى ثابتة ومتناسقة. في المغرب مثلا ركب النظام والإسلاميون موجة الربيع العربي ونجحوا في تجاوز تلك الفترة بأفضل المحاسن وأقل التكاليف.
    النظام الرأسمالي يؤثر في الأحداث حسب مصالحه، وما على كل شعب/بلد أراد التغيير والنجاح أن ُيدخل معطيات النظام الرأسمالي العالمي في خططه للتغيير نحو الأفضل

  7. يقول Omar ALMOSAWI:

    هذا صحيح البتة لقد تطور العقل البشري فاصبح اشد دهاء واصبح ايبليس يندب حظه . الخطة هي ان تدمر هذه الدول بعضها البعض عن طريق الفتن.
    المنفذ لهذه الحروب هم وكلاء الاعداء الماسكين لمفاصل الدول الاسلامية ومن زعماء المعارضة خدم الماسون .باختصار هي خطة الماسون للقضاء على الاسلام لان هذه الحروب العبثية اذا طالت تؤدي الى الالحاد .

  8. يقول خليد المغرب:

    مقال جميل
    صحيح ما قلت يا دكتور هدا الواقع ومنذ زمن.
    كتدثير من الكتاب من نبهوا لهدا منذ وقت بعيد وحتى التقسيم الدولي للعالم وووو…
    ومن اراد فهم مايجري ما عليه الا قراءة كتب :
    أحجار على رقعة الشطرنج وليام جاي كار 
    ……

  9. يقول سلام عادل(المانيا):

    مختصر الكلام من يريد ان يقوم بثورة حقيقية اي تغيير شكل النظام تماما هي الاحزاب الثورية التي لها قاعدة جماهيرية واسعة وقيادة معروفة وايدلوجية يبنى النظام الجديد على اساسها اما ما حدث في بلداننا هي انتفاضات وحتى ان نجحت باسقاط النظام فلن تغيره جذريا او انها تسبب الفوضى بعد سقوط النظام واما الدول الكبرى فهي تستطيع ان تغير مسار الانتفاضات ولكنها لاتستطيع تغيير مسار الثورات ولهذا كل هذه الفوضى والدمار الحاصل بسوريا لعدم وجود قيادة للثورة ولا ايدلوجية تقف خلفها جماهير الشعب السوري الذي ادت انتفاضته لتقسيمه

  10. يقول صالح/ الجزائر:

    1)- في إطار “الفوضى الخلاقة” الهدامة ، يرى مؤسس ستراتفور أن الحروب ، الجديدة ، عكس لكلاسيكية ، لا تشن لكي تربح ، وإنما الهدف منها هو “قبل كل شيء المعاقبة ، زعزعة الاستقرار ، التشرذم ، واللا تسييس والإذلال ، في ظل حكم “العولمة المالية التقنية”. ستراتفور ، هي شركة أمريكية خاصة تعمل في مجال الاستخبارات ، حيث تم تصنيفها على أنها “وكالة المخابرات المركزية السرية”. ويكيليكس استنكر استخدام ستراتفور لـ “شبكات المخبرين ، وهياكل دفع الرشاوى ، وتقنيات غسيل الأموال” ، كما كشفت أيضًا أن سيرجا بوبوفيتش ، أحد مؤسسي أوتبور وكانفاس ، وزوجته كانا موظفين في ستراتفور. على الرغم من تقديم أوتبور وكانفاس جمعيتان “غير عنيفة” ، يدعمهما حلف الناتو للإطاحة بالحكومات لصالح مجموعات أعدتها وكالة المخابرات المركزية . سيرجا بوبوفيتش نصح ستراتفور وضع خطة للإطاحة بحكومة رئيس فنزويلا هوغو شافيز. في 15 نوفمبر 2013 ، أُدين المخبر جيريمي هاموند بتهمة تمرير هذه المعلومات إلى ويكيليكس وحُكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات.

1 2 3 4 5

إشترك في قائمتنا البريدية