لا تنس أن تعقّم دماغك

حجم الخط
18

لا شك في أن البشرية سوف تجد لقاحًا للفيروس المرعب، وسوف تنتصر عليه، ولكن بعد سقوط ضحايا كثيرين وتكاليف اقتصادية هائلة، وسوف يحصل مكتشف اللقاح على نوبل للطب في هذا العام أو العام المقبل، ولكن السؤال الكبير، هل ستكون هذه التجربة فركة أذن ودرساً للبشرية، أم لا؟
بعد الأحداث العظيمة يتغير شيء ما في تفكير البشر، هذا ما تفعله الحروب عادة مثل الحرب العالمية الثانية، وما أسفرت عنه من معاهدات وإعلان عالمي لحقوق الإنسان وغيرها.
كذلك شأن البشر عندما يمرّون بتجارب شخصية، مع خطر ما، أو حتى في تجربةِ حُبٍ عنيفة. بعد هذه التجربة القاسية مع كوفيد التاسع عشر، سوف تعود البشرية بعد دفن موتاها إلى ما كانت عليه، صاخبة في أمكنة اللهو، والمطارات والمواصلات، ودور العرض وأمسيات الشعر والأفراح والمهرجانات، تشبه خلية نحل تتعرض لخطر خارجي، فتعلن حالة الطوارئ وتختفي عن الأعين، إلى أن يزول الخطر ليعود طنينها كما كان، ولكن لم لا تكون هذه التجربة فركة أذن للجميع؟ للدول العظمى كما للصغرى، وللغنية كما للفقيرة، وللأفراد والمجموعات كما للدول، ولجميع الأعراق والديانات، وللإنسان عموماً في كل مكان؟ كثيرون تذكّروا في هذه الأيام الطفل السوري الذي قال “سأخبر الله بكل شيء”، كانت كلمات الطفل أقوى من أي شعر، منذ هوميروس حتى محمود درويش مروراً بالمتنبي، ولكن البشر لم يقفوا عند كلماته، كأنهم لم يسمعوه. المؤمنون يؤمنون بأن الله يرى ويسمع ويعرف ما يجري، ولم تكن كلمات الطفل سوى صفعة للبشر كي يسمعوا ويعوا، ومن لا يؤمنون أيضاً أحسّوا بغصّة في قلوبهم، متفهمين الألم الذي أنطق الطفل بتلك الكلمات الحارقة، ولكن هناك ممن لا ينتمون إلى البشر سوى بأنهم يدبّون على قائمتين، لا تهزّهم كلمات ولا مشاهد، بل دغدغت ساديّتهم فقالوا: إن ذويه الخونة هم السبب.
لا يكفي اللاجئ الهارب من احتمال الموت تحت أنقاض بيته، أو من الذبح والاغتصاب والسحل، أنه ترك بيته ووطنه لينجو بروحه وأسرته، حتى يواجه ببشر يتعاملون معه بعنصرية وسادية، بعضهم يعتبرونه منافساً له على لقمة عيشهم وفرصة عملهم، والبعض ينظر إليه بكراهية قومية أو دينية أو مذهبية أو عقائدية وعرقية وثارات قبلية. هذا ما يواجهه معظم طالبي اللجوء، من فلسطين إلى سوريا حتى المكسيك، مروراً بدارفور وأفغانستان ومينمار وغيرها.
رفع العنصريون جدران العزل حول ملايين من البشر لمنعهم من أرزاقهم في أرض الله الواسعة، من قطاع غزة إلى مخيمات لبنان إلى الولايات المتحدة، إلى جدران أوروبا وأسيجتها في وجه من حملتهم الحاجة والخوف. هذا الإنسان المتحضّر والمتفوّق جداً، يضطر اليوم إلى أن يعزل نفسه رغم أنفه، حتى عن أبناء أسرته، فهل يتذكر المعزولون اليوم في تل أبيب أن هناك من ولدوا في قطاع غزة ولم يخرجوا منه منذ عقدين بسبب عزلتهم القسرية؟ هل يتذكر المعزولون في أوروبا والولايات المتحدة أولئك الذين عُزلوا على حدود بلادهم، وتركوا نهباً للصقيع والمرض واللصوص؟

هل يتذكر المعزولون اليوم في تل أبيب أن هناك من ولدوا في قطاع غزة ولم يخرجوا منه منذ عقدين بسبب عزلتهم القسرية؟

لم نتخيل يوماً أن تعلن أمريكا حالة طوارئ إلا لخطر نووي، كنا نظن بأن فيروسا إلكترونيا فقط قادر على فعل ذلك، فإذا بالحكاية أبسط بكثير مما ظننا. لم نتخيل أن يقف نتنياهو “ملك إسرائيل” في بث خاص، ليرشد شعبه كيف يتصرف بالمنديل الورقي إذا عطس، وكيف يغسل يديه، وكيف يستعمل المرحاض! هل تذكرون تهديد قطاع غزة بمياه المجارير؟ من المفترض أن تكون هذه التجربة فركة أذن لكل البشر، خصوصاً لأولئك الثملين بخمرة القوّة والمال والسلطة، أن يدركوا بأن حضارات كثيرة وعظيمة سبقت حضاراتهم وعظمتهم، وأن يتواضعوا قليلا، وأن يدركوا أن قوّتهم وعظمتهم قد تتلاشى خلال أسابيع قليلة، كأنها لم تكن.
على من ظنّوا أنهم أسياد الأرض فاحتكروها أو يسعون لاحتكارها، أن يدركوا بأن الأرض ببرِّها وبحرها وفضائها لكل البشر، وليست لعرق دون آخر، وأن لكل إنسان نصيباً من هذا الكوكب الأزرق، ولا حق لأحد بأن يرفع جدرانا خصوصاً في وجوه الخائفين أو الجائعين أو المرضى. على هذا الإنسان السجين اليوم في بيته، أن لا يقف متفرّجاً على من يقبعون في السجون ظلماً، وعلى أناس يقتلون أو يطردون من بيوتهم وبلادهم أو يحاصرون ظلماً. على من يهدد العالم بعقوبات وحصار وبدفع الخاوة، أن يعلم بأنه لا حصانة ولا حق نقضٍ لأحد، وما من قويٍ على هذا الكوكب. أيها الإنسان في أي مكان كنت، وأنت تعقّم كفّيك بالكحول، لا تنس من لا يملكون ماء الشرب. وأنت تعقّم مقعدك وفارة حاسوبك، لا تنس الغارقين في الوحول. وأنت تدخل في عزلة مع ثلاجتك التي تحوي ما لذّ وطاب، لا تنس من يغرقون في ظلمات العواصف والبحار. وأنت تعقّم مرحاضك، لا تنس أن تعقم دماغك من العنصرية.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Nazeera:

    مقال فتح امامنا ابواب المقارنة ..ما بين التعقيم ..وبين ترشيد الاستهلاك ..ما بين الوضوء والنظافة اداب الحياة الاسلامية والاتيكيت الفرنسي ..اداب المائدة ..واداب الفوضى الجنسية الذي يعيشها العالم المتحضر مقابل العالم الاسلامي ..جمال الحجاب والنقاب مقابل الكمامات ..

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    النمرود مات بالفيروس! وهل النتن ياهو أقوى من النمرود؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول Nazeera:

    تتمة ..العزل والحجر الصحي ..النظافة ..وتهديدات الأقوى للحلقة الأضعف ..جعلنا جميعا نفكر بمزايا الاسلام مقابل حسنات الحضارة والتكنولوجيا ..عنجهية الدول العظمى مقابل الأقليات ..مرتجعة حساباتنا مع انفسنا ..اننا لا نساوي جناح بعوضة امام فيروس طفيلي
    ..مقالك استاذ سهيل جعلنا نضع ميزان حسنات وسيئات للحرية ..امام الفوضى ..الأسلام والقوانين الربانية امام قوانين الإنسان ..مراجعة الطب النبوي او ما يسمى وصفات الجدة ..وعدم خلط البيض مع السمك ..واكل الطعام الحلو لا يؤذي مريض السكري مثلا ..اليوجا الحديثة والبيلاتيس مقابل الصلاة ..
    الكورونا وباء جعل من دول العالم متوحدين بالصفوف كما يتوحد المسلمين برمضان مثلا ..
    ربما نعيد النظر بعد فراغ المساجد بأن الله غضب على عباده بطردهم من المساجد من بيوته الطاهرة لنجاسة قلوبهم واخلاقهم بفيروس مخفي لا يرى بالعين المجردة ..
    مقال ممتاز ..اعطانا فرصة المقارنة ..بين غزة السجن الكبير الخالي من المرض ..والسجن الكبير بكمامات وكفوف وتعقيم ومرض ..
    الا بذكر الله تطمئن القلوب ..فالعودة الى الله افضل الحلول ..الخلوة ..النظافة ..زتعقيم الدماغ والانسانية .

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    كورونا يقتل ضعفاء الناس وكبار السن, لكنه ضعيف أما الطغاة! فالطغاة يحمون أنفسهم بإنعزالهم عن رعاياهم!! ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول ليلى العاتي، العراق:

      انها مشيئة الله، الله خلق كوفيد_١٩ ،الذي يقتل الضعفاء،انها كذلك مشيئة الله بان الطغاة يعزلو انفسهم
      وشكرا للقدس العربي

  5. يقول كمال - نيويورك:

    العنصري هو الذي يرى نفسه متميزاً على من حوله ، يحق له ما لا يحق لهم ، وهو معفى مما يجب عليهم ، ينبغي أن يأكل وحده ، وأن يسكن وحده ، وأن يستمتع بالحياة وحده ، وأن يشتري من الأشياء الثمينة ما يحلو له وحده ، وأن يبني مجده على أنقاض الآخرين ، وأن يبني غناه على فقرهم ، وأن يبني حياته على موتهم ، وأن يبني أمنه على هلعهم، وأن يبني عزه على ذلهم.

    “قل لن يصيبنا إلا ما كتبه الله”

  6. يقول سوري:

    الانسان لا يتعظ “بفركة أذن” فكلام الليل يمحوه النهار، هل اتعظت دول العالم من الحرب العالمية الثانية؟ ولماذا كل الحروب التي وقعت من بعدها، من حرب الكوريتين، الى حرب فيتنام، وحرب الجزائر، والمالوين، وكل الحروب الكبيرة والصغيرة التي يصعب عدها واحصاء قتلاها.. الانسان بطبعه عدائي بجلد انساني

  7. يقول Samaher:

    مقال رائع تتجرع الواقع المجحف فيه صدقاً وانت تقرأه ..
    ‎الشياطين العنصرية المسيطرة اصبحت هي نافذة هذا العالم والأخطر منها تلك الكورونات التي تقتاد ورائها مؤمنة بها طائعة لها موقنة بمبادئها متجردة من إنسانيتها مجحفة بحقها وبحق غيرها من الشعوب التي تعاني الفقر والقهر والظلم جراء رفع جدران العزل
    ‎اختارت لنفسها ان تكون شعوباً صماء على أن تسمع لتدرك ما يجوب حولها والأجحف منها انها أصبحت العصا المحكمة بأيدي تلك الشياطين التي تقتادها وتتلاعب بفكرها محركة بها شتى آليات الفكر العنصري المتطرف والمحرض لتضمن مساندتها وتأييدها في فرض سيطرتها حيث تشاء وشن حروباتها وبذخ عقوباتها فيمن تشاء انها دول مارقة لا تحترم الأنظمة وتتخطى النظام العالمي لبسط سياساتها الدولية تظهر دمويتها المفجعة، فهي السيادة الاولى
    ‎التي فتكت بالبشرية مرسخة بذلك إرهابًا دوليًّا موحشًا
    اليوم ونحن تحت مسمى (إنسان )جميعنا الإنس والجان البشري الظالم فينا أو المظلوم جميعنا نتشاطر العزلة وجل اهتماماتنا أن نقتات طعامنا حياة وفي داخل كل إنسان فينا جزء لا يخلو من الدوامة الإلهية فإن لم ننجح في تحويل هذا الخبز و الماء إلى فكر و عمل يتوجب علينا حقًا أن نتذكر أن ننسى تعقيم الدماغ.

  8. يقول سامح//الاردن:

    *للأسف الانسان مغرور وجاهل
    ولن يتعظ..
    ولن يتعلم الدرس..
    *سبحانك يا رب ما اعظمك
    وما ارحمك ..
    بدون رحمتك نحن هالكون..
    فلك الحمد والشكر والتسليم.

  9. يقول ثائر المقدسي:

    (لا شك في أن البشرية سوف تجد لقاحًا للفيروس المرعب، وسوف تنتصر عليه، ولكن بعد سقوط ضحايا كثيرين وتكاليف اقتصادية هائلة)…
    كان على العبارة الاستهلالية في مقال الأخ سهيل كيوان أن تكون على النحو التالي:
    (لا شك في أن الإمبريالية سوف تُظهر لقاحًا للفيروس مخفيا، وسوف تتظاهر بأنها انتصر عليه، ولكن بعد ممارسة قليل من تمارين “الداروينية الاجتماعية” للتخلص من كم من الضعفاء والفقراء والإبقاء على الأقوياء والأغنياء)… !!!

  10. يقول مدقق لغوي محدث:

    *** وتركوا نهباً للصقيع والمرض واللصوص؟
    *** وتركوا فتكاً للصقيع والمرض ونهباً للصوص؟

    1. يقول المراقب:

      لا أجد غضاضة في العبارة التي ذكرت ثم يجب أن تتذكر أن هذه جريدة أخبار وليست كتاب من كتب الجاحظ أو القلقشندي. الله يرحمك يا طهطاوي!

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية