من خلال الحفريات المفاهيمية التي يحدث أن يمارسها الفكر التاريخي على الواقع العربي، خاصة ما هو مدرج منها ضمن مقاربتها لشبكة العلاقات المادية والرمزية المؤثرة في هندسة خصوصيات الواقع ذاته، فإنه سيصطدم حتما بصعوبة توظيف غير قليل من هذه المفاهيم، رغم ما تتمتع به من سلطة تداولية في الفضاءات الغربية. ولنا في مفهوم «الرأي العام» خير دليل على هذا الإشكال، الذي سيظل عالقا أمامنا، مهما حاولنا تطويعه وتدجينه، عساه يستجيب في حدود الممكن لمطلب التوظيف. ومرد ذلك، رعونة الانغلاق الذي تتحصن به الذات العربية، درءا لخطر أي «انقلاب داهم» يحتمل أن يتسلل إليها من خارج «خصوصيتها!». والمثير في الأمر، أن سؤال الرأي العام لا يلبث أن يقطع صلته بمرجعياته الفلسفية، فور توظيفه في مقاربة الفضاء العام بالعالم العربي، التي ستفضي بنا إلى مسالك مغايرة ومختلفة، لم تكن من قبل واردة بالنسبة لنا، والتي يمكن إجمالها في بؤس ذلك الانغلاق المضاعف، الذي لا يسمح بشكل أو بآخر، بتبلور أي ملامح واضحة لما يتعارف عليه بالرأي العام، حيث سيحق لنا الجزم بأن القوانين الناظمة للمفهوم، هناك في فضاءات الضفة الأخرى، مختلفة جملة وتفصيلا عن تلك الناظمة له هنا، داخل فضاءاتنا. كما لو أن الأمر يتعلق بمغادرة أجواء الاختلاف المبرر والطبيعي القائم عادة بين الذوات المجتمعية، في اتجاه فرق/تعارض، تتنكر ثغراته لأي معالجة توليفيه.
وها نحن سنبادر، تبعا لذلك، بالقول عطفا على ذلك، بحضور تواطؤ غير معلن بين دواليب أنظمتنا، ونخبها الثقافية، متمثلا في السعي إلى إنتاج رأي عام رسمي، صالح للاستهلاك المرن والسريع، ذلك أن فبركته تندرج ضمن الاستراتيجية الهيمنية، التي تعتمدها الأنظمة في ضبطها لحركية الفضاءات الخاضعة لها، من خلال نسجها لشبكة تواصلية مؤطرة سلفا، يطالب الجميع بتنشيطها، على أرضية التداول المشترك لمنطوق ما يتم توصيفه بـ»الرأي» علما بأن هذا التداول غير معني مطلقا بمبدأ المصداقية. ما دام الأساسي فيه، هو تفادي أي فراغ محتمل، قد يؤدي إلى بروز «رأي عام مضاد» ذي طبيعة جماهيرية متعارضة مع التوجهات المكرسة من قبل النظام ودواليبه.
ولن يفوتنا في هذا السياق، التنبيه إلى أن العبرة لا تكمن في التسليم بحقيقة رأي عام، يحظى بتزكية ومباركة الأغلبية، بتأثير من التوجيهات الفوقية، بقدر ما تكمن في آليات صياغته وبنائه، وأيضا في جدوى التعرف على هوية الذات/الذوات الفاعلة في إنتاجه. ومن المؤكد أن طرح إشكالية الآليات المذكورة، من شأنه تنزيل مفهوم الرأي، من إطاره المثالي والمجرد، الذي يستمد منه انسجامه وتناغمه النموذجي، إلى إطاره الواقعي والملموس، الذي قد يكشف عن تعددية كارثية قد تمتد اختلافاتها إلى أقصى حدود التنازع والتطاحن، حيث تسفك الدماء، وتخرب الأوطان ولا يبقى ثمة من أمل للحديث عن «رأي!» ما، عام أو خاص، وهو ما يفصح عنه واقع الحرائق المضرمة في أكثر من أرض، جراء خلو فضاءاتها من أي بقعة حضارية، تستجيب لمقتضيات التداول العقلاني في إشكاليات رأي ما، يخص وحدة واستقرار ما يتعارف عليه بالوطن. والشائع أن الرأي الرسمي غالبا ما يكون مقترنا بالبعد السيادي، أي مندرجا، ضمن إطار ما يتعارف عليه بالمصلحة العليا للوطن. وهو إطار مثقل عمليا بحمولته القداسية، التي لا تفسح المجال لأي كان، بالتشكيك في مصداقيته.
وفي حالة افتقار النظام إلى القدرة على تصنيع إطار نظري للرأي، بالمعنى السياسي والاقتصادي، والثقافي للكلمة، فإن ذلك سيعني حتما حضور عطب ينخر بناءه، حيث يمكن تفسيره بعجزه عن الاهتداء إلى تلك المقتضيات القابلة لأن تأخذ شكل رأي عام، قادر على استقطاب فضول العامة والخاصة.
كما لا تسمح في الآن ذاته، بتفاعل أي رأي بديل، يقع خارج طائلة التوجهات المعيارية، التي يحرص النظام على تعميمها. ويمكن معاينة البعد السيادي الذي تتمحور حوله مقتضيات الرأي العام، في تمظهراته المتعددة والمتكاملة، كما هو الشأن بالمناسبات الوطنية، التي تكون مثقلة بحمولتها التاريخية والدينية. علما بأن ما من حدث عربي تصله بالذاكرة قرابة تاريخية ما، إلا ويكون قابلا سلفا لأن يشحن في الوقت نفسه بحمولة إضافية، من فيض الذاكرة التراثية والدينية، فضلا عن فيضها السيادي. وهو ما يضفي على الرأي العام هالة من القداسة المتعالية التي تعرّض من يشكك فيها إلى الإدانة القاطعة بتهمة الخيانة العظمى، كما يوحي بتوغل حالة ترهيبية في أمشاج كل رأي عام تتخذ منه المرحلة شعارا لها، وبالتالي، فإن علاقة التلقي الجماهيري هنا بالرأي، هي علاقة المصادقة المسبقة، وعلاقة الإقرار بالموافقة الضمنية والبناءة، بما ينبغي أن يكون متفقا عليه سلفا جملة وتفصيلا. أما بالنسبة لما يحدث أن يثار حول «الرأي» من نقاشات وسجالات، فلا تخرج عن كونها وسائط شكلية لترسيخ ما تم إعلانه والقول به، بوصفه بحثا «تشاركيا! « و»ديمقراطيا!» عن الصيغ الأكثر ملاءمة وإشعاعا لتكريسه وتعميمه.
وفي حالة افتقار النظام إلى القدرة على تصنيع إطار نظري للرأي، بالمعنى السياسي والاقتصادي، والثقافي للكلمة، فإن ذلك سيعني حتما حضور عطب ينخر بناءه، حيث يمكن تفسيره بعجزه عن الاهتداء إلى تلك المقتضيات القابلة لأن تأخذ شكل رأي عام، قادر على استقطاب فضول العامة والخاصة. وهي لحظة جد حرجة بالنسبة لكل نظام، يكتشف خلسة فشله في مواكبة الانفلاتات العشوائية التي تضرب محيطه، بعد أن كانت إلى حين، أداته الفعالة في اختلاق ما تيسر من المهدئات التي «تتسلى» الشرائح المجتمعية بمتعة تداولها، كشكل مبتذل من أشكال مداراة الإحساس بانعدام الحرية. والتركيز هنا على مفهوم «التسلي» له أكثر من دلالة. باعتبار أن الواقع الذي يعنينا في هذا السياق، يتميز أساسا بانصرافه إلى ممارسة التسلية المرة والسوداء، أكثر من اعتماده على التفكير العقلاني في تدبيره لهذه المقتضيات. وهي في جميع الأحوال ضرب من المواجهة المتشنجة والاضطرارية لإكراهات المعيش. وكما هو معلوم، فحالما يتراجع حضور العقل إلى عمق تلك الهوامش المنسية، التي لا توحي بظهور أي مؤشر عليه، لن يبقى سوى «التسلي» مستبدا بمنحاه الساذج والسمج في آن.
وفي حالة تعاملنا مع «التسلي» باعتباره الملاذ الأخير للذات المنزوعة العقل، ، وأيضا باعتباره حجابا، يخفي ما لم يقو الفهم على فهمه، فإن ذلك يعني أن سلسلة طويلة ومتشابكة من الوقائع والأحداث، ستستمر في مروقها الخجول والمخجل، خلف هذا الحجاب، دون أن تكون بالضرورة موضوع تواصل يغري بانبثاق رأي ما، مثير للجدل أو الشفقة. لذلك، فإن ما سيظل واردا بالنسبة لضحايا التسلي، ومنزوعي العقل، هو الاحتماء بردود أفعال غريزية تجاه ما هو مفرح، أو ما هو كارثي. أي الردود التي يلتئم فيها شمل الجميع تحت مظلة عامة، تحمل اسم الرعب. دون أن تكون معنية مطلقا بأن تأخذ شكل رأي عام أو خاص.
شاعر وكاتب من المغرب