«لا كاسا دي بابل»: دون كيخوته السعودي يغني بالايطالية ضد الفاشية!

تابع مشاهدو موقع «نتفليكس» في كافة أنحاء العالم الموسم الرابع من مسلسل La Casa De Papel («قصر الورق» في الترجمة الشائعة) الذي يعني «دار صك النقود» الإسبانية، ولعل الاسم مستوحى من «بيت المال» الإسلامي، وبغض النظر عن مستويات الترجمة، فالدار المذكورة تحتل مركز البطولة الجغرافي للدراما الشهيرة، التي يقوم خيط حبكتها الأساسي على استدعاء لص الفقراء الشهم وصاحب المبادئ (البروفيسور في المسلسل)، الذي يواجه اللصوص الحقيقيين من الحكام والمجرمين الكبار، على طريقة علي بابا ألف ليلة وليلة، وروبن هود الإنكليزي، وربما دون كيخوته الإسباني، وكثيرين من أمثالهم في باقي الآداب والثقافات، ولكن بتنويعات حديثة كثيرة مثيرة، تمكنت من جعل الدراما أحد أشهر المسلسلات في العالم، وأكثرها تأثيرا في مجالات أخرى، من السياسة إلى الرياضة وصولا حتى إلى تأثيره، على ما يبدو، في اللصوص أنفسهم!
اكتشف متابعو المسلسل في مقابلات بثت مع طاقم العمل الإنتاجي والإخراجي والتمثيلي، أن اختيار «نتفليكس» المسلسل للعرض، جاء بعد هبوط هائل في شعبيته في مسقط رأسه، إسبانيا، خلال الموسم الثاني، فما السبب الذي رفع أسهم المسلسل ليخلب ألباب جمهور بشريّ هائل، إلى درجة لم يكن العاملون فيه يتخيلون أبدا الوصول إليها، فقد كان كل همّهم إقناع المشاهدين المحليين الإسبان بالاستمرار بمشاهدة الدراما في موسمها الثاني، بنسبة معقولة تسمح لها بالنجاح أو بتغطية تكاليفها ربما، فما الذي حصل حتى هبط المسلسل في بلده الأصلي، ثم حاز، في المقابل، تلك الشهرة الأسطورية في كافة أنحاء العالم؟

لماذا لا تدخلون بيروت في العصابة؟

استخدم صنّاع المسلسل خلطة من العناصر الكبرى، التي طبعته بالطابع العالمي، بداية من إعطاء اللصوص المشاركين في العملية أسماء مدن تتوزع على القارات والتركيبات السياسية المتناقضة، مثل نيروبي ودنفر وبرلين وهلسنكي وموسكو وأوسلو، وهنا نفهم، على سبيل المثال، سبب مطالبة المغنية اللبنانية إليسا لمنتجي المسلسل باختراع شخصية باسم بيروت. إضافة إلى ذلك فقد وزّع المسلسل الإشارات العولمية في كل اتجاه، فشبكته التجسسية الخارقة التي تقوم باختراق منظومات الأمن لأجهزة الجيش والشرطة والأمن الإسباني، موجودة في باكستان، ويقوم على إدارتها شخص يدعى شاكر، ويتكلم الإسبانية، والمقاول الذي قام بتعذيب أحد عناصر العملية المدعو دنفر، لصالح المخابرات الإسبانية، تركيّ يدعى «عثمان»! (في إشارة تاريخية مبطنة إلى العثمانيين على ما يبدو!)، وتعذيب دنفر المذكور جرى في منطقة أمازيغية من صحراء الجزائر، والشخص الذي باعه جهاز الهاتف الجوال الملغوم، الذي أدى للقبض عليه كان ليبيا، وأحد اللصوص بولندي.
إضافة إلى خلطة الجنسيات والنظم والجغرافيا والتواريخ، يعيد المسلسل استحضار بعد جديد للصراع بين «لص الفقراء» والنظام القويّ المتغطرس، الذي يسيطر على الجيش والأمن والقضاء والسياسة، ولكنّه هذه المرة يدخل أبعادا «فانتازية» جديدة هائلة، فالسرقات لا تتم من أغنياء لتوزع على الفقراء، بل تتعرض للنظام الماليّ والسياسي والأمني برمّته، في مواجهة يلعب فيها الذكاء والقرصنة الإلكترونية وعلوم السياسة والسلوك والنفس وحتى الطب أدوارها، التي تكشف الدولة باعتبارها جهاز سرقة هائلا، وتفضح مفارقة احتقارها للقوانين وهي الجهة المنوطة بتطبيق هذه القوانين، والمكلفة باستخدام العنف لحماية المجتمع وليس للتخديم على شخصيات فارغة، كما هو حال عقيد الاستخبارات بيريه، أو حقيرة، كمدير «قصر الورق»/ «دار صك النقود»/ «بيت المال»، أرتورو رومان، ذي الشخصية الخسيسة، الذي يتلاعب جنسيا بسكرتيرته، ثم يغتصب رهينة في الموسم الرابع، والذي لا يكف عن إثارة الإشكالات ضد مجموعة اللصوص.

يسمح للمسلسل بترويج مجموعة من السلوكيات «الصائبة سياسيا»، الداعمة للهامشيّين والمضطهدين والغاضبين والراغبين في الانتقام من داخل وخارج النظام.

النظام السياسي هو العدو

تقوم لعبة المسلسل على هذا التضاد التراجيدي الصلد، بين النظام واللصوص بطريقة تقلب المعايير، فيصبح اللصوص موضع تعاطف المشاهد، الذي يتماهى معهم شخصيا، وتصبح المنظومة السياسية /الأمنية / المالية، مركز الكراهية، وهو خيط سياسي بامتياز، لأنه يسمح للمسلسل بترويج مجموعة من السلوكيات «الصائبة سياسيا»، الداعمة للهامشيّين والمضطهدين والغاضبين والراغبين في الانتقام من داخل وخارج النظام. فالخطة التي تبدأ من رغبة الطفل غريب الأطوار، الذي أصبح رجلا ذكيا حييا، البروفيسور، بسرقة دار صك النقود، التي تعتبر بمثابة الرمز المالي الأقصى للنظام (وبعدها للبنك المركزي)، تسمح بعرض أنماط من العلاقات والشخصيات الهامشيّة جنسيا، كبرلين، الذي ينوس بين حب النساء والمثلية الجنسية، وباليرمو، عاشقه العصابيّ النرجسيّ العنيف، وهلسنكي، الرجل الضخم ذي اللحية المثلي أيضا، وخوانيتو، المتحوّل جنسيا من ذكر إلى أنثى، وضمن هذه الخلفيّة تصبح المفارقة واضحة بين الذكورية الأمنيّة الفجة للنظام، الذي يمثله وزير الداخلية وعقيد المخابرات، والتنوعات الهامشية والجنسية للصوص.
إضافة إلى حبكة المواجهة بين منظومتين، التي تعين المسلسل على الاستمرار، فإن جزءا من جاذبية المسلسل تعود إلى «تسييله» هذه الصلادة لكشف ركاكة منطق النظام السياسي/الأمني، فالمواجهة الذكيّة تقودها امرأة، وحين تنضم المحققة الأولى إلى مجموعة اللصوص مدفوعة، من جهة، بحبها للبروفيسور، ومن جهة أخرى، باقتناعها بمنطقه السياسي وهي القادمة من حيثيات الاضطهاد الذكوري، تقوم محققة أخرى بأخذ الدور الذكي والحساس، لاعبة الدور المكروه بطريقة فذة، ومشتبكة بدورها، مع النظام السياسي/الذكوري حين يرغب النظام في تحميلها المسؤولية والتخلص منها.

«قصر الورق» في مدينة جدة!

يقوم المسلسل بتفكيك أحابيل النظام السياسي المالي العالمي، عبر إعطاء أمثلة عن مسارعة النظم السياسية المالية، إلى نجدة المصارف وأصحاب رجال الأعمال، عبر طبع كميات مهولة من الأموال، لتجنب سقوط البنوك ولحماية «اللصوص» الكبار جدا، ولعلّ هذه البوصلة «الراديكالية»، قد تفسّر الهبوط الذي تعرض له المسلسل في إسبانيا نفسها، قبل أن تقوم «نتفليكس» بشرائه وتعميمه لتحوله إلى ظاهرة عالمية.
رغم طموحات البداية المحلّية، فقد اجتهد صنّاع المسلسل، منذ موسمه الأول على خلق «براند» (ماركة) مرئية وسمعيّة، فقد تحوّل قناع الفنان الإسباني الشهير سلفادور دالي، والبذة الحمراء، إلى بصمة المسلسل المرئية، التي تم توظيفها لاحقا إلى رمز سياسيّ، استخدم في تظاهرات وفعاليات سياسية، فيما تحوّلت أغنية «بيلا تشاو»، الموروثة من حقبة المقاومة الإيطالية ضد الفاشية إلى بصمة «البراند» الصوتية، ما دفع إلى شيوعها في فعاليات عالمية، لعل أكثرها مفارقة كانت حين استخدم فريق «الاتحاد» السعودي هذه «البراند» واضعا صورة مدربه التشيلي لويس سييرا، الذي يشبه البروفيسور، وأربعة لاعبين تظهر أنصاف وجوههم، فيما يغطي قناع دالي الأنصاف الأخرى، على مساحة هائلة في ملعب «مدينة الملك عبد الله الرياضية» في جدة أثناء مباراته مع فريق الشباب، وكان لافتا أن المسلسل أظهر صورة المباراة تلك في موسميه الثالث والرابع، خلال الإشارة إلى تأثير أعمال اللصوص في الواقع، وليس تأثير المسلسل، بحيث تداخل الفانتازي مع الواقعي بطريقة مذهلة، تجمع بين الكوميديا والتراجيديا.
استثمر المسلسل في هذه التداخلات بين الواقعي والفنّي، والمفارقات العجيبة لها، التي تكسر الحدود بين الحكومات والمجرمين، وأصحاب البنوك واللصوص العاديين، والسياسة وكرة القدم (التي مثّلها استلهام فريق «الاتحاد»، في مملكة لا تتهاون سلطاتها مع أي نأمة «ثورية»)، فوضع بذلك إصبعه على إحدى مناطق التأثير الكبرى في حقبتنا الراهنة، التي يمكن أن يعتبر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ونجوم «اليوتيوب» و«المؤثرون» (influencers) والقراصنة الإلكترونيون وشركة «علي بابا» الصينية، وحتى بعض الظواهر التي ارتبطت بانتشار فيروس كورونا، تعبيرات مذهلة عنها.
وبغض النظر عن تقريظنا لهذا المسلسل، أو نقدنا لادعاءات الصواب السياسي الذي يقدمه، والكشف الممكن عن قولبة تنميطية مسيئة لبعض الجنسيات، خاصة العرب والمسلمين، فإن النتيجة هي أن توظيفه للإمكانيات التي أشرنا إليها أنجز شعبية خارقة وحوّله إلى «بيت مال» لشركة «نتفليكس»!

٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    كان هناك قبل قرن مضى عصابات بالمدن تأخذ الأتاوات من الأغنياء لتعطي منها جزء للفقراء! إسمهم بمصر الفتوات وفي العراق الشقاوات!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    عندما يتغلب الابتذال على التشويق!

    “البروفيسور” ، كما يعرف بالعربية.
    و
    Money Heist
    كما يعرف بالأنكليزية
    و
    La casa de papel

    كما يعرف بالاسبانية ( أي بيت من ورق)

    مسلسل اسباني، حاز على إعجاب الكثير حين بدأ عرضه على القناة الثالثة للتلفزيون الاسباني .. لما فيه من اثارة و افكار غريبة و ذكية شدت المشاهد
    إضافة إلى تضمنه اغنية “بيلا تشاو” التي ضربت شهرتها الآفاق و غنيت بنفس اللحن بكل لغات العالم!

    و لكن منذ أن اكتسبت شركة ” نتفليكس ” حقوق إنتاج المواسم الاخيرة من المسلسل….
    تغلب الابتذال و الرقاعة و الكلام الفاحش المسف و ابراز ثقافة الشذوذ (وهو الخط الرئيسي الذي تتبناه نتفليكس و بشكل صارخ في معظم منتجاتها) على الاثارة و التشويق و الأفكار الذكية التي تميز بها المسلسل و كانت سبباً لشهرته!

    إضافة إلى تحوله إلى النمط الاميركي الصارخ الناطق بالاسبانية مما أخرجه من ثوبه المحلي المميز و جعل المبالغات الساذجة فيه تتجاوز كل منطق.

    الموسم الرابع الذي نزل قبل ثلاثة أيام، كان كارثي و مبتذل بكل المقاييس.

  3. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    البزة (بالزاي) و ليس البذة (بالذال) كما ورد في المقال!

إشترك في قائمتنا البريدية