عادت طروحات اللامركزية السياسية والإدارية لتبرز من جديد وصولاً إلى حد المطالبة بالفيدرالية أو الانفصال الحبي من قبل شرائح مسيحية تجد أنه لا يمكنها التأقلم مع مشروع حزب الله الأيديولوجي.
بيروت ـ «القدس العربي»: تتجه البلاد إلى مزيد من حسم الخيارات في ظل الانقسام الحاد الذي يخلّفه الشغور الرئاسي في موقع رئاسة الجمهورية والذي تبعه انفراد حزب الله بفتح الجبهة الجنوبية من دون الوقوف على رأي الدولة اللبنانية ولا على رأي أي من الفئات اللبنانية الأخرى.
وعادت طروحات اللامركزية السياسية والإدارية لتبرز من جديد وصولاً إلى حد المطالبة بالفيدرالية أو الانفصال الحبي من قبل شرائح مسيحية تجد أنه لا يمكنها التأقلم مع مشروع حزب الله الايديولوجي ومحاولات الهيمنة على القرار في البلد وتوريطه بحروب كل فترة رغماً عن إرادة باقي اللبنانيين، مستعيدة قول البطريرك مار نصرالله بطرس صفير «إذا خُيّرنا بين الحرية والعيش المشترك نختار الحرية». وفي تعبير عن الشعور بالخطر الوجودي وبإقصاء المسيحيين الممنهج عن الدولة الذي عبّر عنه مراراً البطريرك مار بشارة بطرس الراعي التقى في بكركي بدعوة من راعي أبرشية انطلياس المطران أنطوان بو نجم ممثلون عن التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والكتائب و«حركة الاستقلال» و«مشروع وطن الإنسان» للبحث في قضايا سيادية ووطنية وفي موضوع هوية لبنان والشراكة وقرار الحرب والسلم والنزوح السوري ورئاسة الجمهورية وما يُحاك من تسويات أو مقايضات على حساب الرئاسة والنظام. وما أعطى دفعاً لهذا الاجتماع هو بعض التصرفات والقرارات التي يتخذها أفرقاء لبنانيون وتُشعِر المسيحيين بمحاولة تهميش دورهم وعدم الوقوف على رأيهم في الاستحقاقات الكبرى وخصوصاً في اختيار الرئيس المسيحي الماروني وإدارة الظهر للمناصفة المنصوص عليها في اتفاق الطائف، وآخرها محاولة تمرير تعيين 234 خفيراً في الجمارك ليس بينهم مسيحي واحد، إضافة إلى التمييز بين مواطن وآخر في موضوع التعويضات حيث أن الحكومة لم تفكّر بالتعويض على شهداء تفجير مرفأ بيروت ولا على منازل الأهالي المتضررين من الانفجار في وسط بيروت وتحديداً في الأشرفية والجميزة ومار مخايل والرميل والصيفي والكرنتينا، فيما هي وبناء لطلب حزب الله ستخصص 20 ألف دولار لكل شهيد سقط في الجنوب و40 ألف دولار لكل بيت تهدّم في مسألة يتحمّل مسؤوليتها الأولى حزب الله الذي قرّر فتح جبهة «مشاغلة» مع العدو الإسرائيلي من دون علم الدولة اللبنانية.
وقد غاب عن اجتماع الأحزاب المسيحية في بكركي ممثل «تيار المردة» المتحالف مع الثنائي الشيعي الذي يدعم رئيسه سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية خلافاً لرغبة باقي الأحزاب المسيحية. وقد استكمل المجتمعون في بكركي مناقشة وثيقة تتضمن موقفاً موحداً من القضايا السيادية والوطنية والسياسية الأساسية وموضوع الشراكة الوطنية وقرار الحرب والسلم والحياد والنزوح السوري ورئاسة الجمهورية. وفيما هناك توافق على معظم البنود إلا أن مقاربة التيار والقوات لسلاح حزب الله ليست متقاربة. فالقوات لا تتوانى عن المطالبة بحصرية السلاح بيد الجيش اللبناني والقوى الأمنية الشرعية وتسليم سلاح حزب الله إلى الدولة تطبيقاً للقرار 1559 خصوصاً أن هذا السلاح يستجر أزمات وطنية وتعقيدات كثيرة منذ عام 2005 فيما التيار يوافق على حصر السلاح بيد الدولة لكنه يتحفظ على مطلب تسليم السلاح حالياً وعلى ذكر القرار 1559 لعدم إثارة أي حساسية لدى حزب الله.
أما البند المتعلق بالاستحقاق الرئاسي فينص على التمسك بعقد جلسة مفتوحة بدورات متتالية لانتخاب رئيس الجمهورية بما يتلاءم مع الدستور وبعيداً من أي أعراف أو اشتراطات كمثل الحوار قبل الانتخاب.
وتعتبر مصادر مواكبة لاجتماع بكركي أنه لم يعد هناك من فائدة لأي مسايرة على حساب الوطن والشعب والدستور تحت شعارات التوافق والحوار. وهذا ما عبّر عنه البطريرك الراعي بوضوح أمام سفراء دول اللجنة الخماسية مستغرباً «التمسك بالدعوة إلى الحوار من أجل التوافق على انتخاب رئيس البلاد بينما هناك دستور يحكم العملية الانتخابية» لافتاً إلى «أن الآلية الدستورية إتُّبِعَتْ في انتخاب رئيس المجلس النيابي وتكليف رئيس الحكومة ولم يحصل حوار حولها» وقال «طريق الحل مرسوم في الدستور، فلماذا لا يتم الرجوع للدستور في انتخاب رئيس الجمهورية بدل استهلاك الوقت في الحوار؟» مؤكداً «أن التوافق على شخص، على الرغم من جمال الكلمة، منافٍ للدستور وللديمقراطية وللمنطق في جو الانقسام السائد في البلاد».
ولم يكن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع أقل وضوحاً وتعبيراً من بطريرك الموارنة إذ خرج بعد لقائه سفراء اللجنة الخماسية ليحدّد «أن المشكلة هي لدى محور الممانعة لأنه لا يريد انتخابات أو يريدها على قياسه» مستهجناً أداء رئيس مجلس النواب نبيه بري، واصفاً إياه بأنه «Babysitter لمحور الممانعة» وقال «ما شفت أشطر منو للرئيس بري بتضييع الشنكاش».
وترد أوساط القوات اللبنانية على من يقول إن جعجع كان حاداً في اجتماعه بالسفراء، فتقول «إن رئيس القوات سمّى المعطل بالاسم من دون لف ودوران ورفض المخارج غير الدستورية». وتضيف «إذا كانت اللجنة الخماسية تفتش عن مساحات مشترك إلا أن المساحة الدستورية هي من الخطوط الحمر غير القابلة للنقاش، فلا يمكن بأي شكل من الأشكال القبول بحوار على طريقة طاولة رسمية يدعو إليها رئيس مجلس النواب أو الأمانة العامة للمجلس، لأن أي موافقة تحت أي ذريعة تعني تشريع التعطيل والإطاحة بالآلية الدستورية واشتراط الحوار ونقل مركز الانتخاب من الدستور إلى رئاسة المجلس وتحويلها إلى رئاسة مولِّدة للرئاسات من خارج الدستور، الأمر الذي يتعارض مع مبدأ فصل السلطات والآليات المنصوص عنها في انتخاب الرئيس وتكليف رئيس الحكومة وتشكيل الحكومات».
يبقى أن اجتماع الأحزاب المسيحية تحت جناح بكركي ولو على مستوى الممثلين يستعيد تجربة «لقاء قرنة شهوان» الذي كان ينعقد برئاسة راعي أبرشية انطلياس المطران يوسف بشارة وببركة البطريرك صفير والذي شكّل نواة صلبة للمعارضة ما لبثت أن توسّعت وطنياً لتشمل الزعيم الدرزي وليد جنبلاط والزعيم السني رفيق الحريري ومهّدت لانبثاق «لقاء البريستول» الوطني ولحركة 14 آذار التي تمكنت من فرض انسحاب الجيش السوري من لبنان. فهل يمهّد لقاء بكركي لمعارضة وطنية في وجه محاولات الوصاية الجديدة التي يحاول حزب الله فرضها على الدولة اللبنانية والاستئثار بقراراتها؟ الأمر مرهون بموقف التيار الوطني الحر وبعودته إلى ما قبل تفاهم «مار مخايل» أي إلى الثوابت التاريخية للمسيحيين وفك تحالفه مع حزب الله. وفي الانتظار، لا ينظر الثنائي الشيعي بعين الرضى إلى لقاء بكركي، وهو يحذّر من «الطاحونة الطائفية واللعب بالنار».