ما الذي يمكن أن تفعله حكومة أتت على أساس طائفي في بلد أغرقته الطائفية في المآزق، وألقته على قارعة الإفلاس؟ ما الذي كان يتوقع من سعد الحريري قبل اعتذاره عن تشكيل الحكومة؟ ألا يشبه المشهد بأكمله الفرقة الموسيقية التي واصلت العزف والسفينة تيتانيك تستسلم للغرق؟
مع نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، تمت التسوية على أساس توزيع الغنائم بين الطوائف المتناحرة التي أججت الحرب، وأرست ثقافة الخوف والكراهية بين اللبنانيين، وبدلاً من معالجة السبب العميق للحرب في لبنان، والناتج عن التخوفات من اختلال التوازن الطائفي، فإن التوازن الطائفي أصبح التعريف المقبول للاستقرار، وعلى أساس ذلك شحذت الطوائف سكاكينها للحصول على حصة من الذبيحة الوطنية في لبنان، وكانت كل طائفة مرهونة وخاضعة للتأميم لمصلحة زعاماتها السياسية، التي تتولى توزيع العطايا على أبنائها، وأمام استنزاف الدولة في علاقات فساد وإفساد متشابكة مرتبطة بما يسمى بإعادة الإعمار وأولوياته العقارية والتجارية، التي تصب في مصلحة زعامات الطوائف، كان طبيعياً أن يلحق الضعف بالدولة وصولاً إلى مرحلة التشوه الكامل.
كان آل الحريري وغيرهم من العناوين الواضحة للأزمة اللبنانية، ولا يحتاج الأمر إلى كثير من الفطنة لإدراك العلاقة الطردية التي ربطت بين زيادة مديونية لبنان وتضخم ثروة أسرة الحريري، ولذلك يستغرب أن يتعلق اللبنانيون بسعد الحريري، الذي يمثل ظاهرة التوريث السياسي في صورتها غير اللائقة ببلد متخم بالكفاءات والمواهب مثل لبنان، بجانب انتمائه لأسرة استنفدت الدولة وإمكانياتها من خلال وضعها الطائفي. الإفلاس المادي للدولة كان نتيجة لحالة إفلاس سياسي مستوطنة ومتجذرة، جعلت اللبنانيين أمام مجموعة من الخيارات المعروفة مسبقاً، وهم لا ينتخبون ممثلين من أجل مصلحة الوطن التي ستنعكس على المواطنين بالضرورة، ولكنهم ينتخبون الأشرس والأكثر تشدداً في تمثيل الطائفة، والحصول على حصتها ضمن نظام المحاصصة المتعارف عليه أو خارجه، ولشيخ الطائفة أو زعيمها ما يرتأيه مناسباً من صياغة تحالفات تساعده في ممارسة الابتزاز والبلطجة، داخل لبنان وخارجه، وبدلاً من أن يتحول لبنان بحجمه الصغير وإمكانياته المحدودة إلى أرض للحرية والحياد، ليؤدي دوره الطموح بوصفه سويسرا الشرق، تحول إلى ملعب إلى المماحكات والاصطدامات العنيفة بين القوى الإقليمية. لا يوجد حل طائفي لمشكلة لبنان التي بدأت من الطائفية، فالحل يجب أن يتجاوز الطائفة والتعامل مع لبنان بوصفه مائدة دنيوية يقف اللبنانيون أمامها لانتظار دورهم الذي لا يأتي إلا بعد أن يفرغ الطيف الطبقي في كل طائفة من الحصول على حصته.
ليس أمام لبنان حل سوى استعادة ثورته والاستمرار في طريق «كلن يعني كلن» الذي يمكن أن يخرج بهم من الأزمة
تستقبل القوى الطائفية التي تمسك بمفاصل الدولة الدستورية والقانونية، بأذن صماء مقترحات الوزير السابق شربل نحاس، الذي ينطلق من ضرورة الاعتراف بالخسارة بهدف توزيعها وترجمتها إلى «تضحيات يقبل بها الناس، مقابل فرصة للنهوض مجدداً» ولأن أحداً لا يريد أن يعترف بالخسارة، بل وتسابق زعماء الطوائف ليفسدوا ثورة «كلن يعني كلن» بمحاولة اندماجهم معها، لتكون «كلن يعني كلن، باستثنائي» وهذا سلوك يتناقض مع النبل والشجاعة اللازمين للإقرار بالخسارة. ومع أن الحديث عن الخسارة وعدالة توزيعها يبدو نظرياً مناسباً للخروج أو بداية الخروج من المأزق الراهن، إلا أنه يتناسى الوضع الإقليمي الذي تنفرد إيران بتحريكه والمبادرة بقيادته، بينما تقف التحالفات التقليدية على المستوى العربي في خانة التعطيل، ويبقى أن القرار اللبناني ليس وطنياً خالصاً منذ اللحظة الأولى لتأسيس الدولة اللبنانية تحت الرعاية الكاملة للمستعمر الفرنسي، الذي لم يتقدم سوى بورقة من النصائح المحفوظة التي لا تتقدم بشيء خارج النظام الطائفي المكرس، فالاستثمار الفرنسي في تأسيس لبنان الدولة كان يقوم على طائفية لبنان المعقدة، وشعور الخوف القائم بين الطوائف، الذي يعود بجذوره إلى منتصف القرن التاسع عشر وانفجار الفتنة الطائفية التي أدت إلى عملية تهجير واسعة لمسيحيي الشرق في لبنان.
شبح الهجرة والتفريغ السكاني يخيم على لبنان في هذه المرحلة، إلا أنه لا يبدو حلاً مثالياً أمام خريطة الهجرة واللجوء الحالية في العالم، واللبنانيون بين خيارين مريرين، استهلاك الطاقات الشابة في حرب أهلية جديدة لمجرد تحريك الوضع القائم على المستوى المحلى والإقليمي، والانتقال بالضمير الدولي للتفاعل البناء، أو إلقاء شبابهم في المنفى ضمن شروط سيئة واستبقاء لبنان العاجز الغارق في أحقاده وحروبه مفتوحاً أمام نزوات الإقليم ونوبات جنونه. ليس أمام لبنان من حل سوى استعادة ثورته التي تعطلت أمام تحديات كورونا، والاستمرار في طريق «كلن يعني كلن» لأنه الطريق الوحيد الذي يمكن أن يخرج بهم من الأزمة، أما انتظار حكومة تنتجها مشاورات نيابية تمثل الحضور الكامل للوباء الطائفي، فأمر لن ينتج سوى شراء مزيد من الوقت، واستدراك أزمة الطبقة السياسية المهتمة بإبقاء الأوراق في حوزتها، واستعادة الثورة ممكنة في لبنان الذي لم يعد أمامه سوى القليل من الوقت للمحافظة على الدولة والوطن اللبناني، وللأسف لا يشكل سقوط لبنان رعباً إقليمياً، كما يحضر ذلك مع دول أثقل استراتيجياً في موقعها وثرواتها وسكانها، ولذلك فربما يكون المشهد الأخير، الذي لا نتمناه للبنان ولا يستحقه اللبناني البسيط والمحب للحياة، شبيهاً بالأعشاب التي تزهقها أقدام الأفيال الثقيلة في صراعها.
هل ينتحر اللبنانيون؟ وكيف يكون ذلك؟
يمكن للبنان أن ينتحر وأن يحتضن بجسده المحترق زعامات الطوائف ليتخلص منهم «كلن» وليبدأ مثل وردة من وسط الخراب في ورشة مدروسة من أجل التخلص من الأصابع المشبوهة التي تتلاعب بوجوده ومستقبله، وعلى من ينتظرون ذلك المشهد في لبنان أن يدركوا أنه مشهد ملهم ويمكن اعتباره طريقاً للخلاص على كل ما يحمله من رعب وجنون.
كاتب أردني