استبق المحقق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت طارق بيطار ذكرى مرور عام كامل على تلك الكارثة الإجرامية التي تمثّل أوضح إدانة لنظام الأوضاع الجاثم على صدور اللبنانيين منذ نهاية الحرب الأهلية وأعصاها على العدالة إلى اليوم، باستدعاء رئيس الحكومة المستمرة في تصريف الأعمال رغم استقالتها نتيجة لانفراط عقدها والغضب الشعبي عليها في إثر تفجير المرفأ، وعاود ما قام به من سبقه بالإمساك بالملف قبل تنحيته، القاضي فادي صوان، وسطّر أذونات وطلبات رفع حصانة، تتيح ملاحقة قادة أمنيين وعسكريين وقضاة، ووزراء سابقين هم نواب حاليون، في موضوع الإهمال المتراكم، تحت سمعهم وعلمهم، والمتصل بتخزين هذه الكمية الهائلة من نيترات الأمونيوم في عنابر المرفأ، و»بجناية القصد الاحتمال لجريمة القتل».
ويستمد «قرار» القاضي بيطار عنصر قوة من اقتراب اكتمال العام الأول بعد المرفأ من دون تحقيق تقدم نوعي في عملية إجلاء الحقائق حتى الآن، وبعد ذلك بشهرين، ذكرى مرور عامين على أزمة «شح الدولار» التي دفعت باتجاه الانسداد السياسي من جهة، والانهيار المالي المتواصل من جهة ثانية، وما بينهما من انتفاض شعبي استثنائي لم يلبث أن تضعضع، لعدم تمكنه بشكل أساسي من التصالح مع ازدواجية المهام السياسية من جهة، والاجتماعية من جهة ثانية، وانشطاره بين خطابين.
فمن ناحية خطاب «سياسوي»، يقول بالتغيير السياسي فقط، دونما اقتراب من التغيير الاجتماعي والثقافي، لتكون النتيجة من ثم أنّ سياسويته تتحول إلى إلغاء للسياسة، من خلال المناداة على الحلول التكنوقراطية، أو إلى إلغاء السياسة من خلال طرح الأهداف من دون الوسائل، وهذه حال من يريد حل مشكلة «حزب الله» وسلاحه بالتداعي المتواصل لاختفائهما «بلا كيف». وثمة من ناحية مقابلة، خطاب «اقتصادوي» ينظر إلى المعركة كما لو كانت في جزيرة معزولة، وليست في بلد على خارطة الصراع بين المحاور المتصادمة في منطقة الشرق الأوسط، وينقسم ناسه بحده، مع وضد سلاح «حزب الله».
ومع انحسار الموجة الشعبية في مقابل اشتداد الكارثة الوطنية الشاملة، صارت الأسئلة توجه بشكل ملح أكثر، للمؤسسات التي لم تزل قائمة، رغم استشراء الانسداد السياسي، وإفلاس الدولة، وظهورها أكثر فأكثر في صورة المغلوب عليه ما بين مركزي قرار، أمني – سياسي عام، مرجعه «حزب الله»، ومالي، مرجعه ملأ الأوليغارشية المالية، أي حاكمية المصرف المركزي من جهة، وجمعية المصارف الخاصة من جهة ثانية، على ما بينهما من توترات تظهر لتختفي.
فقد انعكست الكوارث والنكبات التي مني بها البلد في السنوات الأخيرة سؤالا ملحاحاً حول دور القضاة، في الدفاع عن فكرة الدولة اللبنانية بحد ذاتها، في ظروف باتت تهدد استمرارها ووجودها، وفي الانحياز لصالح الضحايا والمنكوبين، سواء على الصعيد المالي، حيث جرت مصادرة ودائعهم في المصارف، ولم يجر إعلان إفلاس هذه المصارف في نفس الوقت للقول بأنها ضاعت، أو على صعيد كارثة ومجزرة 4 آب/اغسطس أو على صعيد الانتهاكات المتزايدة ضد حقوق الإنسان، في إطار قمع منتفضي 17 تشرين الأول/أكتوبر والمحتجين على وقائع التجويع والإفقار.
وقد أصيب التعويل على دور انقاذي للقضاة بخيبتين، أولها الإطاحة قبل أشهر معدودة بالقاضي صوان حين سعى لملاحقة أسماء سياسية وأمنية في ملف المرفأ، وحينها تضامن في وجهه، وبيافطة محض مذهبية، الرئيس المكلف المستدام لتشكيل حكومة في البلد غير المستدام سعد الحريري نفسه يتضامن مع رئيس تصريف الأعمال المتبختر في عز الكارثة بأن حكومته حققت إنجازات هائلة، حسان دياب، المهووس بمعاداة الحريرية.
والخيبة الثانية تعلقت بمصير محاولات عديدة حاول فيها بعض القضاة تحصيل حقوق الناس من الغول المصرفي من دون نتائج «حرزانة»، بل وتحمل هؤلاء القضاء التجني الإعلامي عليهم، نظرا لخضوع الإعلام التلفزيوني برمته لأقطاب الأوليغارشية المتعددين. وقد أتى قرار مجلس شورى الدولة مؤخراً بعدم قانونية التعميم 151 من مصرف لبنان الذي يبيح للمصارف تسديد مبلغ محدود شهرياً من الوديعة بالدولار الأمريكي لكل زبون بسعر يفوق السعر الرسمي بضعفين، لكنه لا يتجاوز ربع سعر الدولار في السوق السوداء (والآن خمس هذا السعر) فكانت النتيجة أن سهل للمصارف تطويق القرار وقلب مضمونه، بحيث وافقوا على الرحب على إلغاء التعميم، فيكون السحب على السعر الرسمي فحسب (أي ثمانية في المئة من السعر الفعلي الآن). فتحول المواطنون المغلوبون على أمرهم إلى مطالبين بسلبهم مالهم وفقا لتعميم 151، إذا كان كسر هذا التعميم سيرتد عليهم بهذا الشكل، واستقبلوا ضرب عرض الحائط بقرار مجلس شورى الدولة، بارتياح مسجون في معتقل بأنه نقل إلى آلة تعذيب مسائية أشد وطأة من تلك الصباحية.
حفرة كبيرة
تأتي المراسلات الحالية للقاضي بيطار، بهدف تمكينه من توسيع رقعة الملاحقة، وثقة الناس بالقضاء «يا محلاها» ثقتهم بمستقبل البلد. ومع ذلك، يمكن القول إن «قرار بيطار» نال احتضاناً معنوياً لديهم، ويقينا في نفس الوقت بأن العصابات المتشاجرة والمتواطئة التي دمرت المعاش اللبناني ستتمكن من صدّ هذا القرار. والحق انه قرار لا يمكن المحافظة عليه من دون إسناد شعبي حقيقي، ولا يمكن إسناده إلا بالمطالبة بالمزيد، وهذا المزيد له اتجاه أساسي واحد، المساهمة في وضع حد ختامي لهذا العهد الرئاسي، ووضع حد اختتامي للجمهورية الثانية، جمهورية الأوليغارشية ذات المئة تبعية، الذي جاء الشؤم ينادي بإصلاحها، فكان ان زاد من الحمولة المتراكمة لكوارثها قبله، وكابر على ذلك، ووصلنا حيث نحن، أي حفرة كبيرة يمنح فيها قرار بيطار فرصة لوقف المزيد من الحفر.
أن تتحرك الإوليغارشية مرة أخرى للوي ذراع القضاة، فهذا له مع الوقت تبعات وخيمة أكثر. وان يعزل بيطار كما صوان من قبله وفي الذكرى السنوية الأولى لتفجير المرفأ، فهذا سيكون استفزازا أكثر من وقت لبلد بأكمله. لكن، أعداء الشعب اللبناني عودونا، خاصة في العامين الأخيرين، ان لا شيء يمكن أن يردعهم سوى غضب الناس إذا ما ارتفعت وتيرته، وهو ما حصل، وإذا ما سلك مساراً ممنهجاً، وهو ما لم يتحقق بالحد الأدنى اللازم. ويأتي تحرك بيطار القضائي في وقت تتهاوى فيه الليرة أكثر فأكثر، وتحبس فيه الناس في طوابير الانتظار الاستلابي لها عند محطات البنزين، وتفتقد فيه الأدوية من الصيدليات، ويرفع فيه الدعم عن السلع، وتخرج فيه الاحتجاجات مجددا من بوابة طرابلس ليجري التعامل معها بفظاظة، كما لو كانت طرابلس الشعبية مستعمرة مغضوب عليها من «دولة المركز».
ليس دولة المركز فقط، قوى ما يسمى بالمجتمع المدني أيضاً، تنظر إلى فقراء طرابلس كأبناء مستعمرة، يتضامنون معهم من بعيد، وينصحونهم بأن لا ينتخبوا زعماءهم مرة أخرى، وهذا من قبيل التضامن بالتشفي. وهذا جزء من مشكلة أساسية، وهي غربة المجتمع المدني عن الأكثرية الشعبية من الناس، وتحولها إلى شيء مرئي بالنسبة له، إلا كتهويم يروق له، وقت المشاهد التظاهرية المليونية و»الفوتوجنيك» يجري محو الطبقات الشعبية في مرآة المجتمع المدني. بل يمكن المجازفة بالقول إن الطبقات الشعبية غير المرئية عند المدنويين الخلّص، هي «مرئية بشكل أفضل نسبياً» عند الأحزاب الطائفية. الأوليغارشية الصغرى التي يقيمها المسيطرون على هيئات وجمعيات وقنوات تمويل المجتمع المدني في البلد، تلعب دوراً فعلياً في الحيلولة دون التماس بين ما هو مدني وما هو شعبي و»عامّي».
وهذا يذكرنا، بأن كل فكرة المجتمع المدني في الغرب، من خلال طرحه بإزاء الدولة والكنيسة، ومن ثم ردم الهوة بين المجتمع المدني وبين «العامة»، أما بإنكار هذه الهوة من الأساس، وأما باقتضاء العمل على ردمها لكي يصير المجتمع المدني هو عموم الناس في نشاطيتهم. في المقابل، الهوة بين «المجتمع المدني» وبين «العامة» هي الشكل الأساسي لحضور المجتمع المدني في المجتمعات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية.
مثلما أن قوى المجتمع المدني أسيرة ثقافة البحث عن النقاط المشتركة. والحق ان ابتغاء «تكتيل القوى التغيير» بأي شرط وأي ظرف لا فيه وجاهة ولا فيه ظرف، أحيانا، بل في أحيان كثيرة، بل في معظم الأحيان، ينبغي بالعكس تماماً ضرب عملية تكتيل القوى التغييرية وإعطاء الأولوية للفرز، إذا ما أريد إفساح المجال لتغيير أكثر جدية، أي أكثر شقلبة للوضع في اتجاه يتفلت من إعادة إنتاج المعادلات الممسكة بهذا الوضع.