محيّرة تمثّلات «الطبقة الوسطى» في الأحاديث الدائرة ضمن فلك الإنتفاض والإنهيار في لبنان. تعكّس، على طريقتها، إشكالات تتخطّى النطاق المحلّي، وتطرح ولو بحيثيات وسياقات مختلفة في كل البلدان.
لكنك في لبنان، ستجد من تباكى على إنهيار «الطبقة الوسطى» عقداً تلو العقد، وهو يُعاوِد الفعلة الآن ولو بمسحة دراميّة أكبر. الطريف أنّه هو نفسه تدبّ به الحماسة لنفي وجود «عمّال وفلاحين» في البلد. كما لو أنّ المسائل عنده مختصرها «أغنياء وفقراء». وحتى هذه، تتبدّل غفلة، إلى «سياسيين وفقراء» في واحدة من تبلّدات العقل البشري.
وتجد في المقابل من يستبشر خيراً من أنّ «الطبقة الوسطى» تتهاوى، بما يعود بالفائدة على تبسيط ميدان الصراع بين «الفوق» و«التحت»، حتى لتكاد تشعر أن الطبقة الوسطى كانت سبب البلاء، وأنّ وجودها حال دون تنزّل الوعي الطبقي على أفئدة البروليتاريين. فهي، على هذا المنوال، قرين الأنانية والنفعية الضيّقة والتأرجح والميوعة والنفس القصير.
وهناك من يمضي بالضد من هذا إلى رفع الطبقة الوسطى إلى منزلة الكتلة القائدة في «الثورة». وثمّة من يستعيد الفكرة مقلوبة: فيبخس انتفاضة الناس بحجّة أنّها ملوثّة بالحسّ «البرجوازيّ الصغير».
جزء غير قليل من هذا الأخذ والردّ المحموم حول «الطبقة الوسطى» تواترت إليه أضغاث من التقليد الماركسي. أدنى إطلاع على كتابات ماركس وانجلس سيكشف للمرء، بالفعل، أنّ «البرجوازية الصغيرة» و«الطبقات الوسطية» حيناً، و«الوسيطة» حيناً آخر، مع كل الفوارق والتداخلات بين هذه الإصطلاحات، حضرت أساساً بمحمول سلبيّ رغم كل ما عرفه فكر ماركس وانجلس من مراحل وتحوّلات. كثيراً ما تحضر عبارة «برجوازي صغير» عن فلان أو علتان كما الشتيمة في مراسلاتهما. رلامع هذا، ميّز ماركس بين «الطبقة الوسطى» لأصحاب المنشآت الإنتاجية المتوسّطة وبين «البرجوازية الصغيرة» أي «أصحاب المقاهي والمطاعم وصغار التجار وأصحاب البوتيكات»، ولو أنّه وضع، «بوتيك» البرجوازي الصغير على طرف نقيض من «متراس» الشغيلة، ابان ثورات 1848 عبر أوروبا.
غلّب آباء «المادية التاريخية» نظرة تقول بأنّ منطق التطوّر الصناعي والرأسمالي سيحكم على البرجوازية الصغيرة تدريجياً، إنما بشكل متسارع، بأن تندثر، ويُدفَعُ بقسم متعاظم من أبنائها إلى صفوف البروليتاريا، أي إلى صفوف الطبقة الثورية، وأنّ هذا الخوف من صيرورتهم جزءاً من الطبقة الثورية هو الذي يدفع صغار البرجوازيين إلى موقع لا يمكن الإكتفاء بتوصيفه بالرجعي، لأنه موقع يريد الشيء ونقيضه: الثورة كاملة إنما على قاعدة تفادي صراع الطبقات بالكامل!
مع هذا، ظلّ أفق «المصير البروليتاريّ» للبرجوازية الصغيرة عاجلاً أم آجلاً، يلطّف «سلبية» ماركس وانجلس تجاه كل من البرجوازيتين الوسطى والصغيرة (وهي سلبية بالمقارنة مع العشق الجدليّ، غير المخفيّ نصّاً، للبرجوازية «التي لعبت دوراً ثورياً للغاية» حسب مانيفستو 1848).
وهكذا، استهجن ماركس على طول الخط، في الملاحظات التي وجّهها إلى مؤتمر توحيد الإشتراكية الألمانية في غوتا عام 1875، ذلك البند من البرنامج المطروح على المؤتمر، الذي جاء فيه «إن تحرير العمال ينبغي أن يكون من صنع الطبقة العاملة التي لا تشكّل جميع الطبقات الأخرى ازاءها سوى كتلة رجعية واحدة». رفض بالكامل هذا الخلط العجيب للمقولات. الطبقة الثورية الوحيدة عنده هي البروليتاريا، لكنه رفض أن «يقال عن الفئات المتوسطة أنها تشكّل مع البرجوازية ومع الإقطاعيين أيضاً كتلة رجعية واحدة بالنسبة للطبقة العاملة» ما دامت هذه الفئات المتوسطة ستغدو ثورية اذ ينتظرها السقوط إلى صفوف البروليتاريا.
والأهم من هذا، أنّ ماركس، في «نقد برنامج غوتا» هذا، وجّه الإتهام السياسي إلى هذا البند بالذات، على أنّه تدليس من شأنه بيع الطبقة العاملة للدولة البيروقراطية ـ العسكرية البيسماركية، بحجة أنّها طبقة ليس لها صاحب، ما دامت كل الطبقات الأخرى «كتلة رجعية واحدة» بازائها. أعاد ماركس جذور هذا التدليس لأفكار الإشتراكي الألماني فريدنان لاسال الذي كان يفضّل أن تتحالف الطبقة العاملة مع دولة العسكر والدواوين وكبار الملاكين البروسييين ضد البرجوازية.
في لبنان، هذه الطبقة المزدوجة، المحكومة أساساً بـ»الوضع البروليتاري»، تتملك عقارات بالاقتراض، وتعيش تحت ربقة الاقتراض وفوائده، ولا مضمونية الأسواق وتقلباتها، وتصحو على يوم تصادر فيه المصارف مدخراتها
بعد أقل بقليل من قرن ونصف على «نقد برنامج غوتا» لا يمكن القول أنّ «المصير البروليتاريّ» للبرجوازية الصغيرة تطوّر بالشكل الذي استشرفه ماركس. كان ماركس ينظر إلى بيع قوة العمل على أنها ستتحول أكثر فأكثر إلى مشغلة العدد الأكبر من الناس، هذا تبعاً لمسار الاستقطاب الضديّ بين الرأسمال والعمل. وكان الكسي دو توكفيل ينظر بخلافه إلى مآل الحداثة على أنها ستنمي الفئات الوسطية أكثر فأكثر، وستوسع مساحة تكافؤ الفرص.
ما حصل أن ماركس اختلط بتوكفيل على المدى الطويل. لا اندثرت الطبقة العاملة الصناعية، ولو أن جغرافيا انتشارها تعقّد أكثر بمغادرة هذا الانتشار لتمركزه الأوروبي، ولا اندثرت البرجوازية الصغيرة أو «تبلترت» كلياً.
ما حصل، أنه، في «البين بين»، ولدت طبقة مزدوجة. بروليتارية في جانب، وبرجوازية صغيرة في جانب آخر. تعيش أساساً من بيع قوة عملها، ولها مداخيل أخرى، قد تسعفها حين تتعطل بيع قوة العمل. لديها ما تخسره وما ترثه وما تورثه وما تدخّره وهي جيش المجتمع الاستهلاكي الواسع، لكن ليس لديها أي شيء مضمون بما فيه الكفاية.
في لبنان أو غيره، هذه الطبقة المزدوجة، المحكومة أساساً بـ»الوضع البروليتاري»، تتملك عقارات بالاقتراض، وتعيش تحت ربقة الاقتراض وفوائده، ولا مضمونية الأسواق وتقلباتها، وتصحو على يوم تصادر فيه المصارف مدخراتها.
تختلف هذه الطبقة المزدوجة من اقتصاد لآخر، وقد لا تكون بنفس ثورية البروليتاريا الصناعية «البحت» في القرنين الماضيين، ولا يمكن القول أنّها ورثت البروليتاريا الصناعية، فهذه ما زالت حيّة ترزق، وبشكل يزداد وضوحاً كلما نظرنا إلى تقسيم العمل في الكوكب من زاوية آسيا.
هذه الطبقة المزدوجة هي طبقة «الوضع البروليتاري» أساساً، ولو كانت طبقة الطبقتين في واحد. لا ينفع فرزها على الهوية. «القدر البروليتاري» للبرجوازية الصغيرة حدث بالنتيجة، إنما ليس بالشكل الذي استشرفه ماركس. ولدت طبقة مزدوجة، برجوازية صغيرة في معاشها إلى حد كبير، ويسري عليها «الوضع البروليتاري» إلى حد أكبر.
أما الاستقطاب في المجتمع بين «طبقتين» أساسيتين، في منظار ماركس، فهو استقطاب حاولت انقاذه المفكرة البلجيكية شنتال موف بتخفيف السمة الطبقية للاستقطاب، نحو الاستقطاب بين «أوليغارشية» الواحد بالمئة، وبين «الشعب»، داعية في نفس الوقت إلى «شعبوية من موقع اليسار». إلى العدول عن كل من المنظار الإصلاحي للاشتراكية الديموقراطية المنتهي الى الالتحاق بمشروع الهيمنة النيوليبرالي، والمنظار الثوروي لليسار الراديكالي المنتهي إلى محاصرة نفسه بنفسه. روّجت لما سمّته «إصلاحوية جذرية، أو إصلاحوية ثوريّة» تيمناً بجان جوريس، كمشروع هيمني نقيض للنيوليبرالية انما منخرط في الإطار الدستوري للديمقراطية الليبرالية، منكرة أن يكون «الحل» من خارج آليات الديمقراطية التمثيلية، وإنما من داخل منطق التوتر المثابر بين ما هو ديمقراطي وما هو ليبرالي.
في مقابل شنتال موف، يمتاز التصوّر الذي طوّره المفكر الماركسي الفرنسي جاك بيديه في «هم ونحن؟ بديل عن شعبوية اليسار» (2018) في الرغبة بإعادة السمة الطبقية للاستقطاب المجتمعي، وفي التشكيك بمعزوفة 1 في مقابل 99 بالمئة، التي لا يمكن أن تفسر لمن يتبناها كيف يمكن لقلة قليلة أن تهيمن هكذا على باقي الخلق. أعاد الاعتبار لمنطق التصادم بين طبقتين، لكن ليس بين 1 و 99 بالمئة. من جهة، وجد بيديه أن التصوّر الماركسي للطبقة المسيطرة يخطئ حين يختزلها إلى الرأسماليين فقط، وبالتالي ينبغي توسعة الطبقة المسيطرة لتشمل كل أصحاب الامتياز، استغلالاً أو ادارة أو سيطرة في مجتمع ما، فليست باقي شرائح الطبقة المسيطرة مجرّد بيادق عند الرأسماليين. في المقابل، جمع بيديه كل من ليست لديهم امتيازات ضمن «الطبقة الأساسية، الطبقة الشعبية»، واعتبر أنّ البرجوازية الصغيرة اضمحلت بالفعل على هذا الأساس، بين هاتين الطبقتين. كتاب بيديه المشار إليه من أهم ما أنتج في السنوات الأخيرة، ولم ينل حظه لا في نطاقه ولا عندنا، على سبيل المساهمة في تأطير النقاش. يتقاطع مع فكرة الطبقة المزدوجة بالشكل الذي يفكّر به هنا، لكن مشكلته أنّه ينفي التوتر الفعلي داخلها، بين عمق «وضعها البروليتاريّ» وبين معاشها البرجوازي الصغير، هذا التوتر الذي لا علاج له بفصل هذا الوضع عن ذاك المعاش.
٭ كاتب لبناني