في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، استفاض عالم السيميائيات والروائي الإيطالي البارز أمبرتو إيكو (1932 ــ 2016) في تلمّس النوازع العميقة الكامنة خلف تلك الصحوة الهائلة على إعادة اكتشاف القرون الوسطى؛ والتي اجتاحت الغرب وانتقلت إلى العالم بأسره، فانقلبت من ظاهرة ولع وشغف إلى حالة أقرب إلى الهوس الجَمعي. يومذاك، كان في وسع إيكو أن يقلّب رفوف الكتب وأشرطة الفيديو، فيعثر على عشرات النماذج من الروايات والقصص المصوّرة والأفلام التي تدور موضوعاتها في مناخات العصور الوسطى؛ ابتداءً من حامل نوبل للأدب الأيسلندي هالدور لاكسنس في «المحاربون السعداء»، مروراً بالأمريكي جون غاردنر في «غريندل» التي تعيد رواية الملحمة الإنكليزية القديمة «بيولف»، وليس انتهاءً بالبريطانية جوليا بلاكبرن في «صحابة المجذوم»؛ إذا اكتفى المرء بالرواية، ولم يقتبس عشرات الأفلام من طراز «كونان البربري» وسلاسل كاملوت…
ويومذاك لم يكن المسلسل/ الظاهرة «لعبة العروش» قد رأى النور بعد، وإلا لاقتضى من إيكو وقفة مطوّلة مفصلة كما للمرء أن يرجّح؛ إنْ لم يكن بسبب محتواه القروسطي (حسب نحت بارع اقترحه المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ) الذي كان قد شدّ انتباه إيكو، فعلى الأقلّ تثمينًا للموقع الاستثنائي الفريد الذي بات المسلسل يحتله في ذائقة الثقافة الشعبية الكونية. وفي فصل بعنوان «الحلم بالعصور الوسطى»، في كتابه «رحلات في ما فوق الواقع»، 1983؛ ساجل إيكو بأنّ الظاهرة صحوة وجدانية وجمالية، بالفعل، تبدو مع ذلك وكأنها تعيد إنتاج خطاب ضروري يندغم فيه حنين نازي غامض، بموجة يقين متجدد في قدرة القوى الخفية على التحكّم في الكون.
ليس من دون أسباب، أو سلسلة أسباب، في واقع الأمر. لقد نشبت معظم أزمات العالم الغربي خلال العصور الوسطى، تماماً كما نهضت وترسخت إنجازاته: اللغات الحديثة، الحواضر التجارية، الاقتصاد الرأسمالي بمصارفه وأنظمته النقدية، الجيوش، المفهوم الحديث للدولة القومية، صراع الأغنياء والفقراء، مفاهيم الهرطقة والانحرافات الإيديولوجية الكبرى، الاعتراف (المتأخر) بفضل العلوم العربية خاصة في الرياضيات التي قادت إلى نهضة مثيرة في العمليات الحسابية والمحاسبية، وأخيراً اختراع البارود واكتشاف مجرّة غوتنبرغ. في الخلفية، السياسية والاقتصادية والعسكرية والتجارية والثقافية وسواها، كان المشروع الاستعماري بالطبع، وما اقترن به من «اكتشاف» الآخر عن طريق الغزو والاجتياح والهيمنة والانتداب، يُنضج على مهل، ولكن بصفة منهجية مضطردة.
هي صحوة البحث عن الجذور، وعن مصداقية خاصة يُعاد تلمّس ملامحها وآثارها في مقولات العصور الوسطى؛ حتى إذا اختلطت، بين الحين والآخر، بمسحة الرواية الفروسية (أو «الرومانس»)، والفانتازيا المبهرة، وسطوة الخارق أو العجائبي. ولكن: هل مثّل ذلك الحلم نوعاً من الإغواء المعاصر، الذي يكتنف حقبة ما بعد الحداثة، ذات المغريات الكثيرة المتشابكة؟ إذا صحّ ذلك ــ وهو صحيح حسب إيكو ــ فإنّ العصور الوسطى «تعيد تحويلنا إلى «حيوانات غربية»، وأنّ أواليات ذلك الحلم المفقود لم تتوقف على الإطلاق!
ويحصي إيكو عشرة أنماط تندرج فيها محاولات إعادة اكتشاف القرون الوسطى، التاسع منها يشير إلى أنها خزّان نواميس وفلسفات قوى خفية جبارة، وبنية غامضة سحرية لفرسان الهيكل (أعضاء الحلقة الباطنية التي زعمت امتلاك مفاتيح الكون السرّية وملكوت ما هو فوق الحدود البشرية للحياة)، والخيميائين، والمحافل الماسونية، والقابلانية الجديدة (الفلسفة السرّية لأحبار اليهود ومعتنقي التفسير الصوفي للكتاب المقدس من مسيحيي القرون الوسطى). لقد تجرعت هذه الفلسفات والنزعات الكثير من شراب «الإناء المقدس» حتى ثملت بترياق ارتجاعي سامّ، فأصبحت جاهزة لاستقبال أنماط النزوع الفاشي إلى السلطة، بل وتشرف على تهيئة مقدّماته أيضاً.
وهكذا، بإيجاز: يتقدم فكر هذه النواميس فوق أرض آرثرية (نسبة إلى الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة)، تتسم بالديمومة والخلود لأنها عنصر لازم ولا غنى عنه في بلوغ «الحبور الروحي»، واستعادة الأكوان السحرية المفقودة. ويتساءل إيكو: «قبل أن تتملكنا غبطة استعادة العصور الوسطى، يتوجب علينا تنفيذ واجب أخلاقي وثقافي: تحديد النوع الذي نقصده عند حديثنا عن القرون الوسطى، والنمط أو مجموعة الأنماط التي تندرج فيها قراءتنا لتلك العصور. على ذلك التحديد تتوقف مسألة ما إذا كنّا نتأمل مشكلاتنا المعاصرة بمنظور تاريخي، أم أننا نساند ــ دون وعي ربما ــ مخططاً رجعياً جديداً».
عند هذه النقطة يتوجب التفكير، الجادّ والرصين الذي لا يجوز أن يهمل معطيات واقع الثقافة الشعبية الأبسط أيضاً، في أسباب الشعبية العالية التي تحظى بها مواسم «لعبة العروش» لدى الشرائح الشبابية المنتمية إلى التيارات النازية والفاشية الجديدة، وتلك العنصرية، والمؤمنة بتفوّق العرق الأبيض والحضارة الغربية، والتي لا تُدرج «الآخر» و«الملوّن» إلا في خانات الغريب والدخيل والعدوّ. صحيح أنّ هيستيريا استعادة العصور الوسطى تتجاوز هذا التأطير، السوسيولوجي والسياسي والثقافي والتربوي، وتدخل تالياً في تعريفات إيكو وشروحاته حول الظاهرة؛ إلا أنّ علم اجتماع العنصرية الغربية المعاصرة لا يملك رفاه غضّ النظر عن اعتلال هيستيري عضال، صار قرين المسلسل.
.. هنا وهناك، وحيثما يذهب الحلم بالقرون الوسطى إلى ما بعد عروش القرن الحالي، وما بعد أمثال الأمريكي دونالد ترامب والهنغاري فكتور أوربان والإيطالي ماتيو سالفيني…
كل من أثرى بأي صنف من أصناف المال يريد أن يكون نبيلا فلا يجد له طريقا إلا عبر الإقطاع فيحل الإقطاع مكان العدل لذلك ظلام القرون الوسطى ليس له مكان ولا زمان فيمكث حيث الفساد السياسي.
اكثر الشعارات اللتي لفتت نظري في مظاهرات الأحزاب الفاشية والنازية في أوروبا هو انهم يريدون استعادة رجولتهم المفقودة واعتقد ان أفلام رامبو وطرزان وصراع العروش وغيرها من أفلام هوليود اللتي تظهر قوة الرجل الأبيض ( الخارقة) هي نوع من أنواع التعويض عن الرجولة المفقودة ولو انني الاحظ ان بعض النساء في أوروبا اكتسبوا نوع ( الرجولة) على حساب الرجل الاوروبي هذا يدعوني للقول ان الرجولة توزعت عندهم بالتساوي بين الرجال والنساء وهذا نوع من انوع الوراثة القروسطية اللتي لازالت تتجذر لديهم ولهذا يقرعون أجراس الخطر لدخول بعض الذئاب اللذي يمكن ان يتقمص دور الجدة ويفترس الأطفال وبعض الغرباء اللذين يهددون ( حياتهم وحضارتهم )