تلتقي أغلب التأويلات التي قاربت أسطورة بابل، في الفكرة القائلة بتعرض سلالة عاقة.. للعنة السماء، نتيجة تطاولها على قداسة الخالق، حيث عوقبت ببلبلة ألسنتها، التي أدت إلى نسف جسور لغتها المشتركة، ما فوت عليها فرصة الاستمرار في التحاور والتنسيق، من أجل إنجاز مهمة التخطيط للإطاحة بسلطة المقدس، كي تظل في نهاية المطاف حبيسة محنة عي، ستحول بينها وبين معايشة تجربة اندماجها المثالي والنموذجي في الحياة العامة.
هكذا إذن، وبموجب اللعنة ذاتها، ستتعدد الألسنة، لتتعدد معها أوجه القول، ودلالات الملفوظ، وستتعطل القدرة على الفهم والتفاهم، بين شعوبها وقبائلها، كما بين أفرادها، كي يستمر واقع الحال على ما هو عليه الآن!
وهي وضعية كان من أبرز تداعياتها، تسريع وتيرة اشتغال آليات التأويل والتفسير في مختلف أرجاء لغات المعمورة، أملا في استعادة ذلك التواصل، الذي قد يتيح من جديد إمكانية تلطيف أجواء التوجس والارتياب، الناتجين حتما عن غموض القول، والتباس الدلالة. وتبعا لذلك، ومن منطلق هذا المنحى التأويلي، سيصح اعتبار زمن البلبلة اللغوية، وطبعا المؤطر برؤيته الأسطورية، بمثابة حد فاصل بين اللغة «الأصلية» الواحدة والمشتركة، ومجموع هذه اللغات المتعددة و»المستحدثة» التي أمست تضج بها حناجر الكون، فحيث كانت اللغة الأولى، أداة للتفاهم التلقائي، والكشف العفوي عن أسرار الوجود، أمست اللغات التالية، سببا في تعتيم علاقة السلالات البشرية ببعضها، والزج بها في ظلمات اللامعنى، ومتاهات الاغتراب والصدام الدلالي.
ومن المؤكد أن الأخذ بهذا التصور المغرق في مأساويته، سيكون أحد الأسباب الأساسية، التي دأبت على تحفيز الحالمين باستعادة الأصل اللغوي، من خلال تفقد أثره في عمق الأزمنة السحيقة. مع التذكير بأن حلم استعادة هذا الأصل، هو تلك الطاقة المسكوت عنها، والمؤثرة ضمنيا في تنشيط الخطابات الدينية، الفلسفية، أو الشعرية، باعتبار أن علة وجودها ككل، تكمن في هاجس تفكيكها لبنيات اللغات المتفرعة عن إعصار البلبلة، من خلال تفجير أنويتها، عساها تبوح بما تكتمه دواخلها من أسرار، وحجتنا في ذلك أن خصوصية الإبداع المندرج في مدونة لغوية ما، تستمد أهميتها من وضعها في سياق خصوصيات ذات مرجعيات لغوية مغايرة ومختلفة، فالإبداع من هذا المنظور يصبح برزخا كونيا توظفه اللغات كافة، ودونما استثناء، للقبض على الحقائق الغامضة والمتخفية. وبتعبير آخر، إن الإبداع يتحول إلى إطار تعبيري شامل، يندرج فيه مجموع ما يتفاعل في الكون من لغات. فالبعد الإنساني الذي يتميز به النص الشعري – على سبيل المثال لا الحصر – يجد تجلياته الكبيرة، المتعددة والمتنوعة، في البنيات المجازية التي تتمتع بها اللغات البشرية، باعتبار أن كل لغة تمتلك طريقتها الخاصة والمفارقة في اجتراح دلالاته الغامضة والواضحة في آن.
ففي خضم هذه الحرب الدائرة رحاها بين مراكز القول وهوامشه، سيكون من الطبيعي أن تحتمي كل لغة على حدة، بخوارقها ومعجزاتها وأساطيرها، في أفق ترسيخها لقناعة قربها من مقامات مقدسها الخاص بها، سواء لدى المنتصرين، أو المناوئين لها.
من هنا تبرز الحاجة القصوى للترجمة، بالنظر لكونها تساهم بشكل فعال، في فك الطوق عن القول الإبداعي أو الفكري، كي يتمكن من ممارسة متعة ترحاله في مدونات لغوية مختلفة عن مدونته الأصلية. ففي ظل استحالة العثور على اللغة الأصل، وعبر شعرية التفكيك والتفجير والتأويل الجمالي الفني والإبداعي، ستكون ثمة بارقة أمل، أو وهم للاستئناس بما تيسر من أطيافها وظلالها، المتضمنة بشكل أو بآخر في تضاعيف اللغات الفرعية، حيث يمكن القول، إن هذا الاستئناس، بمثابة البلسم أو الترياق، المعول عليه في «تخليص البشرية» من ضائقة العوائق، التي تحول دون تحقيق تواصلها وتفاهمها، والتي هي امتداد للعنة السماء المؤثرة سلبا، على توازن الحياة العقلية، والنفسية والروحية. ويكفي أن نستحضر في هذا السياق، مختلف أنماط العنف المتبادل بين اللغات، بدافع تكريس حظوة أفضليتها على غيرها، بما تعنيه الأفضلية هنا من فكرة الاعتداد بقرابتها الروحية والمعرفية للغة الأصلية، ولنا في السرديات المتمحورة حول اللغات القديمة، خاصة منها المتعصبة لقداستها، خير تعبير عن ظاهرة التباهي بالانتماء إلى مركزية القول، مع الإقرار بأن تهافت اللغة على تكريس سلطتها بوصفها امتدادا للأصل، يفيد عمليا تكريس أفضلية الناطقين بها، سواء على مستوى العرق، الجنس، أو الحضارة، كما يفيد في الوقت، الإقصاء العنصري، والمبيّت لباقي الأعراق والأجناس والحضارات. كما أن مقولة اقترابها من الأصل أو امتدادها منه، تسعى إلى إضفاء ما يكفي من المصداقية على منطوقها، وهي في الآن نفسه، مصداقية معنى، تحيل أوهامه على «منظومة الحقيقي» المنزهة – ضمن منطق الوهم – عن أي تشكيك محتمل. وهنا تحديدا، ستبرز لا محالة، تلك الإشكالية الإقصائية والعنصرية في آن، والمفرغة من حس الموضوعية، أي تلك الإشكالية التي تجد تجسيدها المكشوف، في تعالي المركز اللغوي عما يعتبره «دونية «الهوامش، محتكرا بذلك الشروط العملية لتبلور «الحقائق» ومهيمنا على بؤر انبلاج ضوء «الأسرار».
إنه الاحتكار المستقوي بوهم الانتماء إلى الأصل، الذي لا يتيح للهامش أي فرصة سانحة للتعبير عن هوية لغاته، بل الأدهى من ذلك، أن الهامش اللغوي، وبحكم الاضطهاد التاريخي الممارس عليه، ينظر إليه بوصفه غير مؤهل للخوض في القضايا المتميزة بحساسيتها، من قبيل مفهوم «الحقيقي» بمجموع ما يتفرع عنه من أسئلة وإشكاليات فكرية وفلسفية، علما أن وصمة هذا القصور، هي التي ترمي به خارج تخوم الحضارات المكرسة. ففي خضم هذه الحرب الدائرة رحاها بين مراكز القول وهوامشه، سيكون من الطبيعي أن تحتمي كل لغة على حدة، بخوارقها ومعجزاتها وأساطيرها، في أفق ترسيخها لقناعة قربها من مقامات مقدسها الخاص بها، سواء لدى المنتصرين، أو المناوئين لها. والملاحظ أن اللغات التي تفتقر إلى البعد المحال على القدسي، تسهر على قطع دابره جملة وتفصيلا من فضائها، مستبدلة إياه بمقدس مجالي وعملي، لا يقل تعاليا هو أيضا عن المقدس التقليدي. مع الأخذ بعين الاعتبار، أن شرط حضور المقدس في الذاكرة اللغوية، يستمد فاعليته من جدل تلك الثنائيات المؤرقة، من قبيل الديني والدنيوي، والجسدي والروحي، والوجود والعدم، ذلك أن الاستبداد المعلن أو الخفي للثنائيات باهتمام الكائن، يوغل بجذوره في بنياته التعبيرية، طبيعية كانت أو مجازية، ما يضمن استمرارية ذلك الحنين الرمزي إلى أسطورة الأصل اللغوي، بوصفها الحاضنة الفعلية لحقائق وأسرار هذه الثنائيات. غير أننا وحال تناولنا لمقولة بلبلبة الألسنة من وجهة نظر مغايرة، سنميل إلى اعتبارها جزءا لا يتجزأ من هوية اللغة، وأيضا من هوية الذات البشرية، حيث لا مناص من وجود تلك المنطقة الرمادية التي يقف القول حائرا أمام صمتها وحيادها، بل إننا وفضلا عن ذلك، سنعتبرها مكسبا فعليا لتوسيع مجال مقاربة مختلف مجالات الحقائق، التي لا يمكن الاهتداء إلى أبعادها إلا عبر التعدد اللامحدود للمسالك اللغوية، بمعنى أن دور كل لغة، يتمثل في إضاءتها الخاصة والذاتية لحيز معين من بنيات هذه الحقائق، وبالتالي، فإن الحاجة الماسة للتواصل الحضاري، تصب في اتجاه مراكمة المعلومة وتنويعها، التي تمدنا بها البلبلة اللسانية حول الشيء ذاته، مساهمة بذلك في إثراء دلالاته، والكشف ما أمكن عن شارة الكنه الغامض، والمحتجب فيه.
شاعر وكاتب من المغرب
يميل الاخوة في بلاد المغرب العربي عموما إلى التغريب من شدة تاثرهم بالفلسفة الأوروبية الغربية خصوصا ديكارت وكنت ونيتشة ويعيشون حالة اغتراب اكثر من حالة الاغتراب التي عاشها اهل الشرق العراق خاصة في زمن المأمون وما بعده والسبب ان مصادر الاغتراب عند الشرق هي اليونانية القديمة وهي فلسفات رصينة وعميقة في التاريخ وقريبة من الشرق جدا بل ان إحدى الدراسات تؤكد على أن جذور اليونانيين هي من الشرق ومن العراق خاصة حيث هاجروا بعد تدمير حضارتهم من قبل الفرس أما الفلسفة الأوروبية الغربية فهي حديثة مفتعلة غير عميقة ونظرية جدا لأنها نتيجة النظرة المتعالية التي نشأت في الشخصية الأوروبية بعد استعمار وغزو العالم