طبعا، لا مكان للحديث عن الفكر بعيدا عن مسكن اللغة. فالأفكار تستمد حضورها من خلال تجسدها في الملفوظ والمكتوب. كما أن اللغة هي ما يمنح الأفكار الحق في الوجود، لكونها الرحم الذي تتخبط فيه نطفة القول. فما من فكرة إلا وتستقل بجيناتها اللغوية التي تشكلت بها ومنها، حيث سيكون من المستحيل الحديث عن تواجد أفكار بمعزل عن هذه الجينات، كما سيكون من غير الممكن فصل الأفكار عن لغاتها.
وضمن هذا السياق، تحضر الرؤية الكونية للغة، بما هي رؤية كونية للإنسان، معها تنمحي الحدود بين الذوات واللغات، والأعراق والأجناس، في أفق توسيعها للفضاءات المشتركة. وتتجسد أهمية هذا الانفتاح، في هاجس انتقام مضمر، صادر عن الهوامش الثقافية والحضارية، كرد فعل منها على لعنة الدونية المطاردة بها من قبل المراكز.
إلا أن هذا الانفتاح السعيد بقناعاته، لا يمكن بحال أن يحجب عنا الإكراهات التي تتخلله، والمجسدة في ضرورة امتلاك الهامش للغة كونية، بما يستدعيه هذا الامتلاك، من إلمام بمقوماتها العلمية والإبداعية. باعتبار أن تأشيرة الكوني لا تسلم على بياض، ما لم يكن حاملها مستأنسا بالخصوصيات الدلالية التي تستمد منها اللغات سلطتها. وهي السلطة ذاتها التي تتيح للمتحدث فرصة الترحال، اللامشروط في مختلف الفضاءات الكونية القاصية والدانية. وبالتالي، فإن الثراء المعرفي للغة، هو بمثابة إطار موضوعي، يتيح لها إمكانية التفاعل خارج محيط الخصوصية المنغلقة على ذاتها. ما يستدعي الاشتغال الدائم على هذه الخصوصية، عبر توسيع اهتماماتها المعرفية، وأيضا عبر انفتاحها اللامحدود على مختلف التجارب الثقافية، التي يستمد منها المشهد الحضاري كونيته.
ولا مراء في أن الوعي بأهمية الحمولة الدلالية للغة في بعدها الحضاري الواسع، هي بمثابة خطوة أساسية لاستشراف الآفاق الكونية، حيث يمكن القول، إن سوء استيعاب الأدوار الحقيقية المنوطة بها ضمن هذا الإطار، سيجعل منها عائقا حقيقيا، يحول دون نسج أي علاقة عملية، سواء مع الذات أو مع العالم. وهي الحالة التي تجعل من اللغة الجاهلة بأدوارها، سجنا محكم الإغلاق، ودليل إقامة جبرية بعيدة المدى، لاغتراب قسري مأساوي ودائم. إنها تعلن جراء ذلك، عن حتمية انعدام أي شروط موضوعية، من شأنها مدّ جسور التواصل والحوار مع الآخر، والآخر هنا، ليس في واقع الأمر، سوى ذلك المدخل الرمزي، الذي يفضي عبوره إلى عوالم جديدة، بكل ما تعنيه الجدة من انفتاح على مقومات إنسانية، ثقافية، وحضارية، معززة باقتراحاتها المضافة. كما أن فعل العبور هو المقابل الموضوعي للتأهيل الثقافي، الذي يعني بالنسبة للذات، امتلاك ما يكفي من الإواليات المعرفية، الكفيلة برفع الحواجز الفاصلة بينها وبين غيرها من الهويات والخطابات المحايثة والمزامنة لها.
إن اللغة على امتداد صيرورتها، معرضة باستمرار لشتى أنواع الصدمات. قد يكون بعضها عاملا أساسيا من عوامل تطويرها وتحديثها، كما قد يكون بعضها الآخر سببا مباشرا من أسباب ترديها وشللها. ويتعلق الأمر في هذا السياق، بشروط المد والجزر الثقافي، المساهمة موضوعيا في بلورة وضعيتين متضادتين، تتسم أولاهما بالحركية والدينامية، فيما تعكس الثانية وضعية الركود والانتكاس. وإذا كانت الوضعية الأولى بمثابة النموذج الحي، المعبر عنه في التفاعل الإيجابي والبناء للشرائح المجتمعية كافة، فإن الوضعية الثانية، تعني المراوحة في حيز تواصل سطحي، لا يتجاوز حدود تلبية الحاجيات الأولية والبسيطة دون غيرها.
فالفكر الفلسفي، على سبيل المثال لا الحصر، شأنه شأن باقي الحقول المعرفية والإبداعية، يظل مهددا بتفسخه، وتلاشيه، ما لم يمارس حضوره اللغوي المتعدد والمتنوع، في مختلف المرافق المجتمعية والإنسانية. واقتناعنا بهذا الشرط يدعونا للتعامل مع العمق الدلالي للغة، بوصفه النسغ الذي تتجدد بحيويته حياة الإشكاليات باهتماماتها وتجلياتها كافة.
من هنا يمكن القول، إن المستقبل المؤجل للكائن، يكمن في قدرته على اكتشاف المزيد من أسرار اللغة، بموازاة تتالي اكتشافه لأسرار الكون. وهي في اعتقادنا الخطوات المفضية مجازيا إلى الاقتراب من لغة الوجود، ما دام الاقتراب الفعلي، يظل إلى حد ما، في حكم الاستحالة المنتمية، شئنا أم أبينا، إلى جماليات الأحلام التي يجد فيها التخييل الميتافيزيقي ضالته الكبرى.
إن المشاركة الإقليمية الحقيقية – على المستوى اللغوي – في تأثيث المشهد الكوني، تستدعي التوافر العملي للقوانين الكفيلة بتحقيقها.
وضمن هذه الجماليات، يمكن الحديث عن مقولة «الكمال الإنساني» بوصفه كمالا لغويا، تنفتح أمامه مغاليق الغيب وأسراره، لكن بعيدا عن هذه الرؤية المخملية والتخييلية لمستقبل الكائن اللغوي، تحضر كونية مضادة، قوامها شراسة القتل المستبدة بآلية اشتغال اللغة، على ضوء منطق القتل السائد في العلاقات البشرية غير المتكافئة، التي تنعدم فيها قيم الاعتراف بالآخر. ما يوحي بمراوحتها لحدودها التقليدية. وأعني بها حدود العي، العجز والتيه. وهي أعطاب من شأنها التأثير سلبا في زوبعة أنساقها، والحيلولة دون تماسك حركيتها، كي تظل في نهاية المطاف، منفصلة تماما عن المسالك المؤدية إلى ما يمكن تسميته بعقل الوجود.
إن المشاركة الإقليمية الحقيقية – على المستوى اللغوي – في تأثيث المشهد الكوني، تستدعي التوافر العملي للقوانين الكفيلة بتحقيقها. ولعل أهم هذه القوانين، اتساع دائرة التواصل الثقافي والمعرفي، في مناخ تنويري وعقلاني، يؤهلها لأن تكون مجالا حقيقيا لتفاعل مختلف الشرائح المجتمعية، لأن اللغة لن تكون مؤهلة لممارسة مهام التوصيل الثقافي، في حالة ما إذا ظلت حبيسة فضاءات مجتمعية ضيقة ومغلقة. بمعنى أنها بحاجة ماسة إلى منسوب عال من الأوكسجين الرمزي، الذي يستمد مكوناته وعناصره، من التلاقحات التنويرية المتعددة المشارب والأنساق. ومن المؤكد أن التغييب الممنهج أو التلقائي لهذا البعد، سيحول دون ممارسة المكون المعرفي لأي شكل من أشكال حضوره. ما يؤدي إلى إطفاء جذوته، وإدراجه ضمن سياق العابر والمؤقت، المفرغ من أي قيمة معرفية مضافة. وهي الظرفية التي تهيمن فيها حالة الاغتراب الثقافي والإبداعي لدى النخب المعنية بالهم التنويري ككل، والتي تكون مشوبة بغير قليل من الاختلالات والتصدعات الناتجة عن اصطدام الأحلام اليوتوبية، بصخرة الواقع الغارق في ظلمة التجهيل. وهو موضوع يحتاج إلى مقاربة خاصة، تضع المهتم في قلب التجاذبات العنيفة، التي تعيش النخب المثقفة نهبا لها، بفعل القطيعة الجذرية القائمة بينها وبين واقع مجتمعي، غير معني مطلقا بمنجزها الفكري أو الإبداعي. كما تضع المهتم ذاته، في قلب تلك المكائد والحروب الدائرة رحاها بين فصائل لا حصر لها من الخطابات المتنافرة، من حيث توجهاتها ومرجعياتها.
نستحضر في هذا السياق، دوامات الذباب السلطوي والتسطيحي، التي تحاصر الأصوات المؤرقة بهاجس السؤال، في بحثها الدؤوب، عن أفق لغوي، يخلو من أعطاب الأمية ومن ظلمات التجهيل. وبالنظر إلى التردي الشامل، الذي تعيشه المجتمعات العربية على جميع المستويات، فإن هذا الأفق اللغوي، سيظل مؤجلا باستمرار، مكرسا بذلك استحالة انتماء نخبه إلى الفضاءات الكونية، التي أمست – بفعل تمنعها عن أي تحيين محتمل – مجرد ملاذات تخييلية، تستضيف أحلامها وكوابيسها. وتوخيا للحد الأدنى من الدقة والموضوعية، لا مناص من القول، إنها ملاذات استشفائية، «تتطهر» فيها النخب إلى حد ما، من لعنة محاصرتها من قبل سدنة خصوصيات لغوية، سعيدة بعماها، وسعيدة بإقامتها الإرادية خارج التاريخ.
شاعر وكاتب من المغرب