لغة اللامبالاة

اللغة المبالية واللغة اللامبالية تقسيمان مفيدان لا من جهة براغماتية أو بلاغية أو سردية، بل من جهة تفاعلية: حين تتفاعل عاطفيا مع ما يقال لك من كلام، أو لا تتفاعل معه. اللغة اللامبالية هي لغة كاللغة العادية لها نحوها وصرفها وتراكيبها وتداولها نفسه؛ لكن ليس لها دافعية في التلقي، كما هو في أحوال اللغة العادية. أن تقول لي: صباح الخير.. فذلك يعني أنك حييتني، هذا هو قصدك الأدنى، وبفهم قصدك الأدنى ذلك أجيبك بصباح الخير.. ولكن عندما تقول لي صباح الخير وأنت تريد أن تقول لي أحبك، فأنا سأجيبك بعاطفة جياشة بصباح الخير، إن كنت أبادلك الشعور نفسه، أو أجيبك بأقل من ذلك إن كانت عاطفتي لا تصل إلى مستواك العاطفي، وفي الحالتين سأستعمل الكلمة نفسها: صباح الخير.. أنا أبالي بمقاصدك وأتفاعل مع درجة تعبيرك العاطفي، فأنا أبالي بقولك وبمقاصدك بشكل تفاعلي مفيد. لغة اللامبالاة لها وضعيات متنوعة يصعب شرحها من غير إدخالك أيها القارئ الكريم في سيرورة سردية، لذلك سأبين لك بالاعتماد على وضعيات السرد الآتية أشكالا من لغة اللامبالاة وكيفية التفاعل معها عاطفيا.
أمْشي في هذا الصباح الباكر، ولا أبالي بشيء على الإطلاق.. تعلمت ساقي أن تمشي وحيدة، تعلمت أن تحملني بدون عناء إلى حيث يأمرها الذهن.. يجلس الذهن في استرخاء في عربته الفارهة، ويشرب قهوته السوداء المرة، ويقرأ بين سطور المُدرَكات، وينشغل بالتأويل ويترك حصان القدمين يمشي حيث أمره أول مرة.. ليس ذهني غافلا تماما عن حصانه الذي يذهب به بعيدا، وإنما يراقبه مراقبة مُسْتَرقَة بين وَعْيَيْن. يقول مار في الشارع لآخَري بلا مُبالاة: صباحَ الخير.. فأقول وكأني أبالي بالتحية: صباح الخير.. من زمان وأنا لا أبالي بما لــ(صباح الخير) من فتنة أو سحر أو بريق، حين يلقيها عليك غريب. التحيات التي تخلو من رونق ما تصبح كلماتٍ بلا بريق، وبلا جذب وبلا مساحيق.. التحيات وهي تلقى عليك لا قيمة لها إن كان من يلقيها لا قيمة له. من لا قيمة له يكون أحيانا شخصا أفقدته قيمته في بورصة معاملاتك. قدّرت أنني لن أبالي بصباح الخير إلا إذا خرجت عليّ أنا الماشي بلا هدف في هذا الصباح جنية جميلة وقالت بلغة الجن صباح الخير.. الكلمات التي نقولها في التحية لها أرواح مختلفة، صحيح أنها تلبس أقدم الأصوات والكلمات، غير أن أرواحها تتجدد.. واللامبالاة حالة تجعل الكلمات جميعا محنطة مهما كان بريقها.
أمشي ولا أعرف لونَ أضواء الفوانيس التي أمشي في ضوء نورها الخافت.. ولمَ سينتبه إليها ذهني المشغول بإصلاح أخطاءِ الفهم العالقة من كلامٍ قديمٍ.. صار ذهني هذه الأيام غير عابئ بمعالجة الأحداث المباشرة، كحدث مشيي الآن في وقت مبكر من الصباح، في شارع فيه كثير من المستنقعات.. يتركني ذهني بلا انشغال عليّ من لصوص الفجر الذين سرقوا محفظتي ذات صباح في هذا المكان بالذات وهربوا، معتقدين أن فيها شيئا يمكن أن يباعَ. غرس لص الفجر يومها شيئا حادا اخترق رأسه لباس الشتاء، بدون أن يؤذيني والحق يقال.. وخلع المحفظة وهرب.. بعض المارة كانوا يراقبون المشهد بلا مبالاة، لكأنها كانت لديهم إعادة لمشهد سينمائي رتيب.. صحت في لص الفجر وهو يعدو : ليس فيها شيء.. ليس فيها شيء.. هذه كلمات لا شك أنها كانت باردة وهي تقع في أذن اللص، استمع إليها بلا مبالاة، واختفى في أول منعرج لحارة ضيقة أهلها لا يبالون بما يسمعون في هذا الوقت، ولا بما يقوله من لا حول لهم ولا قوة للص الفجر وهو يسرق محفظتهم، معتقدا أن فيها حاسوبا سيبيعه بأغلى الأثمان.

أجلس في مقهى وأحاول أن أشرب قهوة تنزع عني لامبالاتي.. يقول شيخ: العمر يا بنيتي عبث المسحورين.. المسحورون بالجمال يعبث بهم العمر.. تقول وهي تقترب منه: العمر يا أبتِ سحر العَابثين.

أن تقول شيئا ولا يبالي به اللص فذلك شكل من اشتغال اللغة اللامبالية، في سياقات جادة هي سياقات الخطر.. لغة اللامبالاة لا تعني أنه لا تواصل ولا تفاهم بالكلام، وإنما تعني ههنا سياقا من السعي إلى إبرام عهد ينقضه السامع، بناء على حالة من التجاهل واللامبالاة ليست هي بالضرورة تكذيبا. لغة اللامبالاة يمكن أن تكون مرتبطة بشح في الذاكرة الحافظة حين تمنع عنك أن تنشط عاطفة معينة يطلبها من يلتقيك، فحين لا يفعل يحمل كلامك في التأويل محمل اللامبالاة.
تسألني السؤال الذي أتمنى دائما ألا أسأله ولكني أسأله: هل تذكرتني؟ أجيب مجاملا: طبعا تذكرتك.. يكون ذهني وقتها في وضعية المتشفي مني.. أقول: يا ذهن اشتغل وابحث عن شيء منها في الذاكرة الحافظة.. عن شيء تتعلق به وتجعله جسرا إلى معطيات عنها، حتى ولو شحيحة… يكون الذهن في ذلك الوقت متظاهرا بطرق أبواب الذاكرة الموصدة.. لست أدري لمَ تكون الذاكرة مثل منافذ الضب إلى جحره، تكون متعددة متفرقة يكفي أن تهرب إليها فقط حتى تدخل.. لكن ذهني الآن مثل ضب أضاع جحره ويتظاهر بمحاولة الدخول.. سألتني هل تذكر اسمي؟ بحثت عن اسمها فلم أجده.. أوّلت نسياني بلا مبالاتي بها: الذاكرة لم تحفظ اسمها وبالطبع لم تحفظ صفاتها وأعمالها وأقوالها. ابتَسَمَتْ وسألت عن الأهل والأولاد، ودعت الله أن أكون بخير.. وانصرفت.. كل ما قالت بعد فشلي في البحث عن اسمها كان كلاما بلا فائدة، ومجاملات تقتضيها لا عبارات اللقاء بعد غياب، بل حتما شعورها بأني شخص لا يبالي بمعرفتها القديمة، حتى إنه لم يحفظ في الذاكرة اسمها.. كثيرون هم أولئك الذين يذهبهم النسيان حين يمرون في طريق اللامبالاة..
ما زلت أمشي في طريق اللامبالاة.. طريق اللامبالاة هي الطريق التي تعبرها ويعبرها معك أشخاص لا يثيرون اهتمامك، لأنك تكون وقتها في حالة من الوجد العظيمة اسمها اللامبالاة. هي حالة وجد عظيمة لأنك تكون في مرحلة من يفرغ نفسه من الانفعال الحسن أو القبيح، ليس سهلا أن تخلي روحك من الألم والسعادة ومن الفرح والشقاء من الأنانية المفرطة ومن الغيرية الطافحة.. أن تخلي نفسك من الشيطاني والألوهي من الجبري والاختياري من الحرية والمسؤولية.. حين تفعل ذلك وتضع نفسك أمام مرآة لا تريك كما تريك بقية المرايا، ما ينبغي لمرآة أن تعكسه… تبحث لك عن لغة لامبالية تقولها، وعن تأويل لامبالٍ للكلام الذي يقال لك بلغة لامبالية. لن تجد في اللغة القديمة المألوفة شيئا يناسب حالتك من اللامبالاة ستضطر إلى أن تستعمل اللغة القديمة، بلباسها لكنك ستنزع عنها روحها المبالية وستضطر وأنت تسمع كلمات الناس أن تعطيها تأويل من لا يبالي بجميع معانيها: المعنى المقتضى، المعنى الحاف، المعنى المستلزم.. سيكون لوقع كلمات من نوع: يا صاحبي ويا أملي ويا روحي ويا حبيبي كوقع من قال لك: يا فلان، أو أقل من ذلك.. لأنك ستقول وأنت لا تبالي.. أن بينها جميعا ترادفا في الخواء العلاقي.. أصعب حالات اللامبالاة في اللغة المدركة أن تكون لكلمات كثيرة بعيدة معان واحدة.. أصعب حالات اللامبالاة في اللغة أن يصبح الكلام البعيد جدا مرادفا بعضه لبعض…
أجلس في مقهى وأحاول أن أشرب قهوة تنزع عني لامبالاتي.. يقول شيخ: العمر يا بنيتي عبث المسحورين.. المسحورون بالجمال يعبث بهم العمر.. تقول وهي تقترب منه: العمر يا أبتِ سحر العَابثين.. أنت تسحرني بكلامك أبدا.. أنا من أصل الخلق ابتليت بك.. أنت أبي حبيبي. وحدها كلمة يا أبي.. تخرج عن حظيرة الترادف حين يقولها لك من ولدت وليس له غيرك في هذا الكون.. يقولها فتُشحن اللغة بالمبالاة وقد كنت تعتقد أنها أصيبت بكورونا اللامبالاة.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية